آخر الأخبار
ثلاثة أيام في تعز.. الطرق المعبدة بصور الحرب والذكريات(1)
في يناير 2015 كنت في مدينة تعز ، بصفتي مسئولاً إعلامياً لمشروع تطوير التعليم، برفقة فريق تقني لتوزيع أجهزة ومستلزمات لعديد من المدارس الثانوية في مديريات المحافظة. في الليلة السابقة لحفل التوزيع، الذي حضره محافظ المحافظة حينها شوقي أحمد هائل في مدرسة نعمة رسام ، كنا نسمع أصوات أسلحة ثقيلة ، تدل على اشتباكات شديدة في شمال المدينة .
وفي كلمته في الحفل الخطابي صباحاً قال المحافظ هناك أطراف تريد إدخال المحافظة في دوامة العنف والفوضى ، وإن اشتباكات المساء العنيفة هي تمهيد لذلك ، وإن كان التبرير التالي لتلك الاشتباكات القول بأنها نشبت بين عصابات الأراضي في المناطق المحيطة بالمدينة، والتي تُدعم من مسؤولين وواجهات اجتماعية في المحافظة والمركز.
بعد أسابيع قلائل دخلتِ المدينة، وتالياً المحافظة في أتون الحرب العبثية ، وتم معاقبتها بالحصار الجائر من قبل تحالف صالح والحوثيين والذي لم يزل قائماً حتى اليوم، وجعل الداخلين إليها ، والخارجين منها يعانون الأمرّين ، ولم تسلم أحياؤها من عابثي الداخل من البلاطجة واللصوص ومن قذائف المحاصِرين لها من الخارج.
قمت بزيارتين متتابعتين للقرية صيف وشتاء العام 2017 لرؤية والدي المريض ، آخرهما كانت لوداعه الأبدي في ديسمبر من ذات العام ، دون المرور على المدينة، إذ كنت أصل القرية وأغادرها من أكثر من طريق وعر وشاق وطويل ومكلف، توصلني جميعها الى خارج المدينة تارة عن طريق هيجة العبد في الشمايتين ، فطريق حيفان ، وتارة عن طرق سامع في المواسط ، وثالثة عن طريق الأقروض في مديرية المسراخ .وكلها معبدة بنقاط تفتيش تتبع المُحاصِرين والمحاصَرين ، وكل أفرادها يتفننون في ايذاء المسافرين وامتهانهم ، وأيضاً ابتزازهم بجباية الأموال لصالح أفراد النقاط والمشرفين عليها.
طيلة خمس سنوات وتسعة أشهر لم تطأ قدمي المدينة ، رغم اشتياقي الكبير لها ، وأحاول استعادتها ، في كل مرة ، من خلال جملة ذكريات عن الطفولة التي أنشرها تحت عنوان "الوقت بخطوات عجُولة" ، وكانت تؤلمني ،ولم تزل ، الأخبار التي ترد منها عن تدمير معالمها وتفكيك ثقافة التسامح فيها ، وجرها الى مربعات العنف والدم ، وتحويل شبانها الى مقاتلين مأجورين في صفوف المتحاربين ، بعد أن اُفرغت المقاومة من قيمها الأخلاقية وفكرها النبيل.
في منتصف أيلول / سبتمبر 2020 قادتني الأقدار لزيارة قريتي لأسباب عائلية، ووجدتها في أفضل حالتها مطر وخضرة وزرع مثمر ، أنستني هذه الحالة الباذخة كل تعب وإرهاق وارتباك نفسي، وأقدار مماثلة جعلتني أغادرها - بعد 5 أيام من المتعة - هذه المرة الى تعز المدينة ، لزيارة الأهل والأقارب بفعل فائض الوقت ، وتوفر وسيلة انتقال مريحة إليها .
غادرت القرية عصر جمعة ، بعد أن بددت شكوك وخوف السائق على السيارة من مبيتها في المدينة لأيام ، بسبب المتواتر من الأخبار عن الإنفلات الأمني الذي تعيشه ، بعد أن تأكدتُ من أنها ستكون في مكان آمن ، بعيداً عن المربعات الأمنية للبلاطجة واللصوص المحسوبين على الجيش والمقاومة.
ازداد ارتياب السائق بعد أن تجاوزنا بقليل نقطة الهنجر، على مدخل المدينة الغربي في الضباب حينما سمعنا اشتباكات شديدة في تل مقابل تسيطر عليه المقاومة ، وعند أول نقطة تالية ، غير بعيدة عن الأولى ،وجدنا جندياً مسترخياً ، محشو فمه بقات كثير يسأل بكلمات غير مفهومة عن مكان الاشتباكات ، وكأنه من كوكب ثان ، وليس جنديا في نقطة لا تبتعد عن موضع الاشتباكات بأقل من مئتي متر ،تستوجب منه الحالة اليقظة والاستعداد.
وصلنا تعز قبيل المغرب ، وأول صورة مجسمة عن الحرب ودمارها كانت في جولة المرور بمشاهدتي على الطبيعة المباني المدمرة في واجهة الشارع .. تفاجأت بحجم الدمار الكبير في العديد من المباني ، بفعل المواجهات الشديدة ، قبل دحر الحوثيين من المنطقة.
وكان أول شيء فعلته بعد وصولي إلى قلب المدينة هي قيامي بجولة في مربع الطفولة بين المدينة القديمة والسوق المركزي وشارع 26 سبتمبر ، في محاولة مستميتة مني لسكب أطنان من ماء اللوعة في طين التذكر، وتألمت جداً حينما وجدت أهم معلمين شابثين بذاكرتي ومتوجب علي زيارتهما "مكتبة الوعي الثوري" في شارع 26 و"صندقة علي النهمي" بائع البطاط بجوار الباب الكبير مغلقين !!
كانت المدينة هادئة وخالية من المتسوقين تقريباً ، وأرجعتُ الأمر من الوهلة الأولى لصعوبة الوضع الأمني، لكني مع دخول المدينة ساعات الليل الأولى ، ووجدت أبواب المحلات لم تزل مفتوحة في شارع 26 والتحرير الأعلى والسوق المركزي وسوق الجملة بدأت أتذكر وقع الجمعة بوصفها يوم إجازة ، وأضاف صاحب محل تجاري ،هو بالمناسبة قريب لي، إن للوضع الاقتصادي أثره أيضاً في بقاء الناس في مساكنهم ، لأن تسارع انهيار العملة قد أدى الى رفع أسعار السلع بشكل جنوني ، وفرض على غالبية الناس البقاء في البيوت ، عازفين عن التسوق، إلا حين تضطرهم الظروف تتبع السلع الرخيصة قليلة الجودة كما قال.
وحده مطعم ومقهي سبأ في السوق ( مطعم شمسان المعمري ) ذكّرني بزحام المدينة وضجيجها ، فحين دخلته لتناول العشاء كان مزدحماً بالزبائن، ويعطي انطباعاً عن حيوية المدينة، وصورة صاحبه المرحوم شمسان أحمد نصر المعلقة في الواجهة وكذا حيوية المباشر سلطان بملامحه التي أعرفه بها منذ أكثر من أربعين عاماً ، وأن بانت على جسده دهسة قطار العمر السريع، تعيداني الى تلك الأيام المحببة.
كنت أظن أن التنقل ليلاً في المدينة له مخاطر جمة حسب ما كنت أسمعه من أخبار ، لكن قبول سائق دراجة نارية بنقلي من السوق المركزي إلى حي الكوثر على تخوم الساحة " حيث يسكن الولد تمام" في الثامنة مساء بدون تردد بدد الصورة المتضخمة بداخلي عن حالة الانهيار الأمني في ليل المدينة، الذي يؤثثه اللصوص وقطاع الطرق وأصوات البنادق.
من شدة الإرهاق نمت في حدود التاسعة ، أي قبل ساعة من الموعد الطبيعي لنومي، وصحوت قبيل الفجر بأكثر من ساعتين، استعنت بالهاتف واللاب في قراءات متناثرة لتبديد بقية الوقت حتى تزول عتمة الليل من أجل الخروج إلى الشوارع لاستعادة صورة المدينة في هذا الوقت المبكر ، كما كنت أفعل مع كل زيارة إليها.
ومع أول تفتق للضوء خرجت من الشقة مستعيناً بضوء الجوال على هبوط الدرج التسعين التي تشبك الأدوار الخمسة للعمارة، ثم بدأت بصعود الشارع المبلط بالأحجار الى جوار مدرسة الشعب في حوض الأشراف ، وواصلت سيري صعوداً الى جوار البريد المرمم حديثاً ماراً بالجدار المزين برسوم الراحل هاشم علي على سور مجمع المالية والمواصلات ، وحين وصلت إلى جوار فندق الجند سلط أحد المسلحين ضوء كشافه البدائي على وجهي ، رغم أن الضوء كان كافياً لجعله يتحقق من ملامحي، ومع ذلك لم يوجه لي أي سؤال أو استفسار !!. ، بعدها بساعات فقط عرفت أن الفندق صار ثكنة عسكرية تتبع أحد الألوية المرابطة في المدينة ، واصلت سيري إلى جولة النقطة الرابعة ثم أخذت بالنزول من العقبة باتجاه شارع 26، وحين وصلت إلى مقابل شرفة المنزل الذي سكنه الفنان العظيم هاشم علي طيلة أربعة عقود ، في منتصف العقبة ، استعدت وجهه وسماحته العظيمة حين طلبت منه في ذات زيارة تصويره في الشرفة في أكثر من وضع للاحتفاظ بها في أرشيفي الخاص، واستعنت بها لاحقاً في الكتابة المتكررة عنه.
وصلت إلى جوار مبنى البنك اليمني للإنشاء والتعمير في أسفل العقبة فاتجهت يساراً للدخول لحارتي السابقة ( حارة الأصنج) وبعد جولة في أزقتها متذكراً أيام الطفولة هبطت من درجها الغربي وصولاً إلى مقهى عبده علي أبو الخمير.
جلست على الطاولة العتيقة وطلبت حبتين من الخمير (خبز مسكر مقلي على الزيت) ،حتى أتلافى إحراج الرجل قبل السلام عليه لكن حينما رآني ولده عمَّار – الذي لم أكن قد قابلته من قبل سوى في وسائل التواصل- قال أنت عمي عبد الوهاب صح ؟ قلت نعم أنا ،وكيف عرفتني فقال من صورك .
ثم قادني إلى والده الذي كان يقوم بتحضير الخمير داخل المحل الضيق ، فنهض للسلام علي بكثير من الود، وفي لحظة خاطفة استعدت ما كتبته عنه قبل شهرين :
"لم يزل عالقًا بأذني صوته الجميل وهو يؤم الناس في صلوات الفجر، حينما كان يتخلَّف الإمام، ببنية متوسطة، ولحية خفيفة موزعة على وجه أبيض نحيل، بجلباب أبيض وأحيانًا فوطة وشميز وكوفية بيضاء، كنا نشاهده في الغالب، وهو يقوم بنفسه بتحضير الخمير العدني، ويشرف على طبخ الشاهي الملبن، الذي يجتذب الكثير من الزبائن من أنحاء متفرقة من المدينة، التي كانت صغيرة وقتها.
من مواليد منطقة قدس بمواسط الحجرية أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، عاش في عدن، ومع إنفجار ثورة سبتمبر التحق بالحرس الوطني، وفي حصار السبعين كان ضمن قوات الصاعقة التي استبسلت في الدفاع عن صنعاء بقيادة الشهيد عبد الرقيب عبدالوهاب لكنه مع موجة التسريح للضباط الجمهوريين، قام بفتح هذا المقهى المتواضع أسفل الدرج وصارعنوانًا مميزًا في شارع 26.
كان يصعد الدرجات بسرعة فائقة ليلحق موعد الصلاة جماعة، ويعود إلى مقهاه أسفل الدرج ممسكًا بالبصير، يحضِّر "عجنة" الخمير بيديه، وهو من يقوم تاليًا بقليها على الزيت المغلي لتنتشر رائحتها المحببة في الأرجاء.
أذكر ذات عصر كنت أتناول الشاهي بالحليب برفقة ابن الخال عبدالرقيب، فبدأت تُمطر، فاستشعر "رقيب" الخطر، ترك الشاهي وصعد الدرج مسرعًا للوصول إلى البيت، وبقيت أنا أتحدث مع الأصدقاء الذين كانوا معنا، ولم تمضِ دقائق إلا والمقهى قد غرق بالماء المنسكب من أعلى الحارة، فطفت صناديق الشاهي والكراسي وغرقت المؤن، وبقينا محاصرين وغارقين في الماء لساعة كاملة، حتى هبت نجدة أهل الحارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في مشهدٍ أوجع كثيرًا عبده علي، لكنه لم يفت من عضده؛ إذ عمل طيلة الليل مع الفازعين بتنظيف المكان من مخلفات "السيل" وإصلاح الأعطاب في الأشياء وتهيئة المقهى من جديد لاستقبال الزبائن من الصباح الباكر، وكأن شيئًا لم يكن. صوته لم يزل متعافيًا، ولم يزل يمارس عمله القديم في عجن وتحضير الخمير، أما الصورة التي رأيته فيها لا تزال كثيرة الشبه بصورته المحفورة في ذاكرتي، وإن كانت سنين العمر قد أثلجت على وجهه، وأثقلت قليلًا على ظهره، فبدا بلحية بيضاء وظهر مقوسًا قليلًا.
(يتبع)
المقال خاص بموقع المهرية نت