آخر الأخبار
قوارب وسفن صغيرة.. صناعات تقليدية في سقطرى
بحكم انعزال سقطرى عن البر اليمني أو العربي والعالم طيلة قرون في الفترة السابقة إلى نهاية السبعينات لعدم وجود وسائل نقل، والتي إن وجدت فإن السقطري لا يرغب بالهجرة من بلده ويهاب السفر ويدعو الله بلغته الدراجة أن يكفيه ما وراء الماء بقوله:( تعرر عن ألله دي سار ريهو)؛ لذلك ظلت سقطرى خاصة والأرخبيل عامة قرونا من الزمن مجبرة على استخدام الأدوات البدائية والتقليدية كونها لم ترتبط بالأسواق في الداخل والخارج ولم يصلها من المصنوعات الحديثة إلا القليل أو ما دعت إليه الضرورة.
وفي المقابل كان السقطري يصنع لنفسه من الأدوات ما يستقيم به عيشه كونه لم يجد في أسواق سقطرى ما يلبي حاجته من الأدوات المستخدمة في حياته المنزلية والزراعية والسكنية، وهو إن وجد شيئا منها فإنه لا يمتلك الكثير من النقود حتى يقتنيها ثم إنه على قناعه أن أدواته البدائية أكثر فائدة وأقوم صلابة وأكثر نفعا وصحة من غيرها من الوسائل الحداثية.
أمر آخر وهو أن حياتهم قائمة على التعاون اللا محدود حيث يكفي أن يمتلك فرد واحد من القبيلة مثلا المسمار أو أي أداة لحفر الطين كي يدفنوا موتاهم فيستعير منه كل صاحب حاجة ثم يرده، وقد لا تقتصر الإعارة على جيران السكن بل قد تتعدى إلى جيران القرى والمناطق.
لذلك وجد الإنسان السقطري نفسه مجبرا على صناعة الأدوات التي تستقيم بها حياته فتدرب على الصناعة وأتقنها وجعل يتفنن فيها من طور إلى طور حتى بلغ إلى حد صناعة القوارب والسفن الصغيرة.
وقد اعتمد الإنسان السقطري القديم على الطبيعة بشكل كلي في مصنوعاته لذلك أحبها ودعا إلى الحفاظ عليها وتقويمها والاستفادة منها وربى الجيل على ذلك وسن الكثير من القوانين والأعراف التي من شأنها الحفاظ على البيئة الطبيعية وإن احتاج شيئا من أدوات الطبيعة فإنه يتعامل معها بثقافة المبقي المقتصد لا المنبث المستهلك وبثقافة المتوسط الذي لا يجعل يده مغلولة قترا ولا يبسطها كل البسط إنفاقا وإتلافا.
ومن هنا نستطيع القول إن الإنسان السقطري اعتمد على ثلاث مواد رئيسة في صناعته، فهي العامل المهم في حياته، و هي الخام الأساسي الذي يصنع منها وسائله الخدماتية وهي كالآتي:
الطين: للطين عند الإنسان القديم والحديث في الأرخبيل استخدامات عدة أبرزها بناء البيوت وطلائها وردم سقوفها، ومن الناس مهرة بمعرفة جيد الطين يتخير أنواعا مميزة وقوية تمنع تسرب الماء إلى داخل البيوت. ولا تزال إلى اليوم أغلب البيوت في القرى والأرياف على هيئتها الطينية فقد بنيت بواسطة الطين وسقفت بالطين وطليت جدرانها بالطين.
و المتجول في أسواق العاصمة حديبوه سيجد أواني الفخار ومجامر البخور الفخارية معروضة للبيع إلى يومنا هذا.
ومن استخدامات الطين صنع الأواني الفخارية الصحون والقدور والملاعق والمشارب...وكل ما يؤكل به أو يستخدم للحفظ والتخزين والتغسيل وغيره.
الأشجار: تأتي الأشجار في المرحلة الثانية بالنسبة لأهميتها الصناعية فبالإضافة إلى الثمار فإن المجتمع يستفيد منها في مجالات عدت حيث يتم سقف البيوت بواسطة عيدان الأشجار وخاصة شجرة العلب ولأهمية هذه العيدان أخذت مسمى مستقل باللغة السقطرية الدارجة(عبهر) أو بالجمع (عباهر) والكبير منها يسمى (مصادق) وهناك نوع صغير من هذه العيدان يقطع من أشجار أخرى يسمى (مرصص) وهو بمثابة البلوت أو خشب الصنوبر يمنع تسرب الطين إلى الأسفل.
ومن أكثر الأشجار استخداما في الصناعات شجرة النخيل فهي رفيقة درب السقطري وصديقة حياته وحب قلبه، وبين الإنسان السقطري والنخلة صداقة أواصرها تباذل الاهتمام والمنافع فالسقطري القديم يحب النخل ولا يؤثر عليها شيئا آخر من المال ولا يمكن بحال من الأحوال أن يستغني عنها لذلك استفاد الإنسان من كل شيء في النخلة.. فالأعواد الميتة يستخدمها في تحويط ودرب المزارع والبساتين وكذلك يرصها مع بعض بشكل متساو، ويعقد بين كل عود وآخر بحبل وبذلك يحصل على أبواب المنازل والأحواش وأقفاص الصيد ومحانب القطط ... وذلك بعد تجريدها أعواد النخل من الأغصان، أما الأعواد غير المجرده من أغصانها فإنه يستخدمها لتركيب العرشان وهو نوع من المنازل المؤقتة التي تصنع في فصلي الصيف والخريف هروبا من الحر أو في أماكن الظعن و الإقامة المؤقتة وكلا النوعين يحتطب ويوقد عليها النار.
وبالنسبة للأغصان الحية أو الخضراء وخاصة أغصان قلب النخل يصنع منها الحبال الصغير بطريقة فنية يتقنها المهرة من الرجال والنساء ويتبارون في ذلك أيهم أسرع وأي الحبال أطول وأقوى حتى أنها تعرض على الأقوياء لقطعها بالأيدي والكثير منها يصعب قطعه فغذا انقطعت دلالة أنه لم يتقن فتلها،و باقي أغصان النخيل الخضراء يتم تعليفها للمواشي ويصنع منها المكانس أو يتم فحص أوراقها باليدين حتى تكون لينة ومن ثم تلف على بعض لتتكون منها حبال صغيرة.
ويصنع من الليف أو المادة التي تشبه المنخل والتي تربط أغصان النخل ببعضها و تسمى بالسقطرية (نوسى) الحبال الكبيرة كما تستخدم كمفارش وتعمل منها مصدات تربط على بطون الذكور من المواشي التيوس والكباش والثيران لمنعها من التزاوج مع الإناث في فصول معينة.
ولا يهمل الإنسان السقطري شيئا من النخل فلبها يقدم وجبة للضيف ويعتبر من أحسن الوجبات وما بعد اللب مادة لزجة سكرية تطبخ وتؤكل في أيام القحط والجوع أما حاليا فيعلفونها للأبقار والأغنام. وكذا جذوعها تسقف بها البيوت المؤقتة وتغطى بها الكرفانات والآبار وتستخدم أوتاد للبيوت والعرشان وغيرها.
ويستخرج من بعض الأشجار الأخرى الأصماغ والعطور والأدوية وأدوات الزينة والتجميل وهناك نوع من الحطب يتم تبخير المنازل به كونه يمتاز برائحة عطرية مميزة ومنها ما ينظف به الأسنان ويزيل التسوس، وكل هذه المنافع اكتشفها الإنسان السقطري من غير تعليم ومن غير تجارب ومختبرات وغيره.
الحيوان: وأكثر الحيوانات نفعا وتواجدا في سقطرى أربعة أنواع هي: الأبقار والجمال والحمير والغنم والضأن، وتأتي الأغنام في المقام الأول من حيث كثرتها وفائدتها حيث غالبية السكن يمتلك الغنم بالإضافة إلى نوع آخر، يليها الضأن ومن ثم الأبقار ومن ثم الحمير وأخيرا الجمال.
ولا يستخدم الإنسان السقطري الحمير في غير الركوب وتوصيل الأمتعة فقط كونها غير حلال؛ أما الأنواع الثلاثة الأخرى فستخدم ألبانها وشحومها وجلودها ولحومها في استخدامات عدة.
فجلود الجمال والأبقار تستخدم مفارش وأحيانا خياما ضد الشمس والمطر وكذا يصنع منها الحابول أو (الحبهول) وهي: الوسيلة التي يتسلق بواسطتها النخيل الطويلة، وهي عبارة عن حبل يتم فتله من جلود الأبقار والجمال مع متكئ للظهر حتى يتسنى للفلاح العمل فوق النخل دون مشقة، وهذه الوسيلة موجودة في كثير من الدول العربية تعرف باسم الحابول .
أما عن الأغنام فتستخدم قرونها في مقابض السكاكين وتشترك مع الضأن في استخدام شعورها حبال وصوفها مفارش وجلودها وسائل للسقاية وحقائب لحفظ الأمتعة بالإضافة إلى الاستخدام الأكثر شهرة والأوسع انتشارا وهو حفظ التمور حيث تعبئ في جلود الضأن والماعز المذبوحة بطريقة خاصة لذات الخصوص وكذلك تخض فيها الألبان حتى يستخرج منها الدسم، وقد يصنع من هذه الجلود وسائل الترفيه فيصنع منها الدفوف والمزامير وغيرها.
وتستخدم شحوم هذه المواشي جميعا للتدهين وللإدام، وتستخدم قرون الأبقار والثيران في الحجامة وفي النداء وغيره.
وفي الختام هناك الكثير من الاستخدامات للمواد المذكورة والكثير من الصناعات إلا أننا أهملنا المتعارف عليه والمشهور من هذه الاستخدامات ومن المواد وركزنا على ما كان غريبا أو خاصا في سقطرى تخليدا لها؛ لأن أغلبها انقرضت وما بقي منها صار محصورا في مناطق معينة دون الأخرى وكثير من فتيان الجيل الحديث لا يعرف من هذه الاستخدامات غير القليل.
ولابد هنا من الإشارة إلى مساعي الشيخ أحمد سعد تحكي رحمة، وهو سقطري كان يسكن في عمان فقد قام مشكورا مقام الدولة بجمع هذه الوسائل والمصنوعات في متحف أثري في منطقة حالة على الساحل الشرقي من الأرخبيل وبالإمكان زيارته للباحثين والمختصين بالحرف والآثار.
المقال خاص بموقع المهرية نت