آخر الأخبار
خطة التهجير.. وصفة لتوسيع الصراع لا لإنهائه
بقدر ما تبدو فكرة طرد سكان قطاع غزة من أرضهم مفاجئة وصادمة، فإنها في جوهرها تعكس استعادة فاضحة لسلوكيات استعمارية اعتقد العالم أنها أصبحت من مخلفات الماضي. لكنها اليوم تطفو إلى السطح بجرأة غير مسبوقة، متجاهلة كل الأسس القانونية والإنسانية التي تحكم العلاقات الدولية.
إن مجرد طرح هذه الأفكار يعكس عقلية لا تزال تستهين بالحقوق الإنسانية، وتتجاوز المبادئ الأساسية للعدالة، وتقفز على حقوق الشعب الفلسطيني غير آبهة بالجذور التاريخية لهذا الصراع. فهل يُعقل أن يُطرح التهجير القسري في القرن الحادي والعشرين كحل لمشكلة سياسية عمرها أكثر من سبعة عقود؟ إن القبول بمثل هذه الطروحات يعني فتح الباب أمام فوضى تنسف كل القوانين والأعراف، وتضرب الاستقرار الإقليمي والدولي في مقتل.
لقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية لعقود دور الوسيط في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأظهرت كقوة عالمية، التزاما مبدئيا بالسلام القائم على حل الدولتين. لكن ما نراه اليوم من أطروحات تتساوق مع الطموحات المتطرفة داخل الحكومة الإسرائيلية يمثل تراجعا خطيرا عن هذا الالتزام، وهو أمر لا يليق إطلاقا بالولايات المتحدة ولا بمكانتها كقوة عالمية مسؤولة عن الحفاظ على الشرعية والقانون الدولي.
لم يعش الفلسطينيون في قطاع غزة عقودا من الحروب والمآسي، ولم يدفعوا هذا الثمن الباهظ من الدماء والتضحيات، ليأتي من يطالبهم بمغادرة أرضهم والبحث عن أوطان بديلة، وكأنهم مجرد أرقام يمكن شطبها من المعادلة السياسية والديموغرافية. إن فكرة التهجير ليست فقط غير أخلاقية، بل هي قفز فوق حقائق التاريخ التي تثبت أن الشعب الفلسطيني لم يرضخ في الماضي، ولن يفعل ذلك اليوم.
فكل المحاولات السابقة لفرض حلول قسرية على الفلسطينيين باءت بالفشل، ولم تؤدِ إلا إلى مزيد من التعقيد وإشعال فتائل توتر جديدة. فأي وهم هذا الذي يجعل أصحاب هذه الطروحات يعتقدون أن النتيجة ستكون مختلفة هذه المرة؟
إن الاعتقاد بإمكانية اقتلاع سكان قطاع غزة، وتقديم ذلك كحل للصراع، ليس إلا تفكيرا واهما، فهذه الخطة ليست سوى وصفة جاهزة لصراع أوسع وأشد عنفا وأكثر قدرة على تقويض أسس الاستقرار في المنطقة بأسرها.
وهنا لا بد من الإشادة بالموقف العربي الذي بدا منذ اللحظة الأولى واضحا وحازما في رفض هذه الطروحات. لكن هذه الصلابة يجب ألا تبقى في إطار التصريحات، بل ينبغي أن تتحول إلى أفعال ملموسة، سواء من خلال تبني خطة عاجلة لإعادة إعمار قطاع غزة، أو عبر تكثيف التحركات السياسية والدبلوماسية لقطع الطريق أمام أي مشروع يسعى لتغيير الواقع الديموغرافي في فلسطين.
إن العالم العربي أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية في الوقوف بجانب أشقائه الفلسطينيين، ودعم صمودهم في وجه المخططات التي تستهدف اقتلاعهم من أرضهم. وهذا يتطلب الشروع في صياغة رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تمنع تكرار سيناريوهات النكبة والتهجير التي عانى منها الفلسطينيون لعقود.
كما أن المجتمع الدولي مطالب أكثر من أي وقت مضى، بتوحيد موقفه في مواجهة هذه النزعة الاستعمارية المتجددة التي تتجاهل مبادئ وأسس القانون الدولي. إن استمرار هذا النهج لا يعني فقط انتهاك حقوق الفلسطينيين، بل يعني فتح الباب أمام مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار وهو أمر لا ينبغي للمجتمع الدولي أن يسمح بحدوثه.
غزة كانت وستبقى لأهلها، وأي محاولات لإبعاد سكانها لن تغير من حقيقة ارتباطهم العميق بأرضهم، فالتاريخ يثبت أن الشعوب المتجذرة في أوطانها لا تتخلى عن حقوقها، مهما كانت الكلفة والتضحيات.
*نقلا عن صحيفة الشرق القطرية