آخر الأخبار
حكايات سقطرية شهيرة 2 (أبو نواص)
من القصص الشهيرة في أرخبيل سقطرى التي تدور في مجالس الناس وأسمارهم قصة أبي نواص وهي شخصية افتراضية ابتدعها الناس من خيالاتهم وألفوها مزيجا من القصص والحكم والمواقف مما حفظوه وسمعوه وتهدف قصص أبي نواص إلى خلق الفكاهة والمرح وشغل أوقات الفراغ.
ولا يخفي أن هناك نوعا من التجانس بين مسمى هذه الشخصية وشخصية أبي نواس الشاعر الشهير في العصر العباسي كذلك هناك توافقا في الطابع القصصي حيث يجمع بينها طابع المقالب التي ينتصر فيها أبو نواص أو نواس على خصمه ولكن قصص أبي نواص السقطري تختلف في السياق والأحداث والطريقة السردية فضلا عن اختلافها في اللغة.
وقد طال النسيان والخلط قصص أبي نواص كغيرها من الآداب السقطرية نتيجة عدم الاهتمام بالتدوين واستغناء الجيل الحديث عنها بوسائل الترفيه الحديثة والخلط بينها والقصص الأخرى فكثير من الرواة لا يفرقون بين قصص أبي نواص وقصص علي أبو تعيل الذي تحدثنا عنه في مقال سابق ولكن المتفحص يجد أن هناك فروقا عديدة بينها من حيث البساطة والجمهور المتلقي وليس هنا المجال لمناقشة هذا الأمر ولكن للتوضيح فقط نشير إلى أن قصص علي أبو تعيل تميل إلى البساطة لذلك تصلح لكل الفئات العمرية أما قصص أبي نواص فلا تخلو من الإثارة وتحفيز الغرائز وتعدد المآسي مما يدل على أنها لا تصلح إلا لفئات عمرية محددة وقد أدرك السقطريون ذلك فكانوا يحكون للصغار ما يصلح لهم وللكبار ما يصلح لهم فمن النادر أن تجد طفلا يحفظ حكايات وقصص أبي نواص في حين أن جلهم يحفظون قصص علي أبا تعيل او شيئا منها.
حكايات أبي نواص كثيرة ومتعددة التفاصيل والأحداث ومع ذلك لم يسع باحث إلى تدوينها ودراستها من السقاطرة أو من غيرهم لذلك ضاع الكثير منها ولم تبق إلا عند كبار السن المهتمين منهم بالجانب القصصي.
وفي الغالب ترتبط قصص أبي نواص بالسلطان الذي يمثل صورة الظالم الذي يقسو على الناس بتصرفاته وتمثل شخصية أبي نواص صورة الحكيم الذي ينتصر للناس من السلطان ومن هذه الحكايات ما ذكر أن السلطان وضع شرطا قاسيا لمن يريد الزواج بابنته أن يجلس على صخرة ظهرت في وسط البحر في مسافة بعيد تتطلب الماهر في السباحة وقد كان الوقت حينها شديدة البرودة عاتي الرياح هائج الأمواج.
انتدب شاب يتيم نفسه لخوض التحدي آملا أن يظفر ببنت السلطان فدخل إلى البحر وأخذ يسبح والناس ينظرون إليه حتى وصل إلى الصخرة وبات هنالك وسط ذهول من الناس جميعا لجرأته وتعريض نفسه للخطر فقد أيقنوا جميعهم بما فيهم السلطان أنه هالك لا محالة.
كانت والدته أكثر الناس قلقا عليه فجعلت تمشي على الساحل يمنة ويسرة وتدعو لولدها بالنجاة وعندما حل الظلام أرادت أن تحيي في نفسه شيئا من الأمل فأوقدت في الساحل نارا سألها الناس لماذا توقدين النار؟ قالت على الأقل حتى يستأنس بها ابني ولا يستوحش من الظلمة أن كان ما يزال على قيد الحياة تناهى إلى السلطان ما صنعته الأم وما قالته فوجدها حجة يتذرع بها إذا عاد الشاب سالما وبالفعل كتب الله للشاب النجاة وعاد في الصباح إلى الساحل سالما واستقبله الناس يهنئونه ويدعون له وانتظروا من السلطان أن يفي له بوعده ولكنه لم يفعل بل تحجج بأن ما جعل الولد على قيد الحياة أنه استدفأ بالنار التي أوقدتها والدته في الساحل ولم يعترض أحد على السلطان فذهب الولد منكسرا مهموما وصار هذا الموضوع حديث الناس حتى تناهى إلى سمع أبي نواص.
وفي اليوم التالي ذهب أبو نواص إلى السلطان فوجد عمال السلطان وخدمه يذبحون ويوقدون النار لا قامة حفلة أمر بها السلطان حينها فكر أبو نواص بحيلة وقام بحراسة النار وأجبر العمال على وضع القدور في مكان وإيقاد النار في مكان آخر وأقنعهم أن السلطان هو من أمره بذلك انصاع العمال وجدوا في وضع الحطب على النار وإيقادها لكن أثرها لم يصل إلى القدور جاء السلطان ليتأكد من جاهزية الطعام فصاح بهم كيف تجعلون النار في مكان والقدور في مكان آخر فجاء إليه أبو نواس وقال سيدي هذه أسرع طريقة ستنضج بها اللحم فقال السلطان من المستحيل أن تنضج فقال أبو نواص إذن كيف أقنعت الناس أن الولد اليتيم استدفأ في البحر بالنار التي أوقدتها والدته في الساحل فأحرج السلطان أمام الناس واعترف بخطئه واستدعى الولد اليتيم وزوجه بابنته.
ومن حكايات أبي نواص أنه ذبح بعيرا له مسنا وهزيلا ليبيع لحمه فلم يشتر منه أحد ففكر بحيلة تجعله يعوض خسارته فوضع اللحم في غرفة وجعل يستدعي الكلاب حتى أدخلهم جميعا هذه الغرفة وأعطاهم من لحم البعير ثم أغلق عليهم الباب وحبسهم عندما افتقد الناس كلابهم بحثوا عنها فلم يجدوها سألوا أبي نواص فأخبرهم أنها عنده وأنه يحتجزها حتى يدفعوا له قيمة اللحم الذي أكلوه فدفعوا له المال وأخذوا كلابهم ولم يبق عنده غير كلب واحد أسود اللون هزيل الجسم أعور العين عجوز لم يأت أحد لأخذه فجعل يضربه حتى هرب الكلب ودخل إلى حمام دار سيدة غنية وكانت تخفي عشيقا لها أوصافه تشبه أوصاف الكلب عجوز أسود أعور العين جاء أبو نواص في أثر الكلب ودق الباب بقوة وحين فتحت له المرأة الباب قال أريد العجوز الأسود الأعور فذهب فكرها إلى عشيقها فقالت وما تريد منه؟ قال أريد أن أضربه خافت المرأة من الفضيحة ومن خسارة عشيقها فجاءته بمال كثيرة ليسكت وليذهب فأخذ المال وذهب وحين دخلت المرأة الحمام وجدت الكلب فندبت حظها وتحسرت على خسارتها وقالت هذا الأعور الذي يريده الرجل.
وقد اشتهر أبي نواص حتى صار مضرب المثل وملجأ الناس في شكواهم وصار مدرسة يتعلم الناس منه الحكمة والذكاء والتغلب على الخصوم ذكروا من هذا الباب أنه عندما حضرت الوفاة أحد الرجال استدعى ولديه وأوصاهما وقال لا أملك من المال سوى ثلاثمائة دينار سيأخذها أحدكما وأما الآخر فيذهب يتعلم عند أبي نواص وعندما مات الوالد اختار الولد الصغير المال وذهب الكبير للتعلم عند أبي نواص.
ذهب الولد الصغير بماله إلى المدينة فوجد السلطان يعرض بنته ليتفرج عليها الناس مقابل مئة دينار لكل مشاهدة وكانت على مستوى عال من الجمال في اللون والقوام والجسم عندما سمع الشاب بذلك قاده الفضول إلى الاطلاع على جمال بنت السلطان واقنع نفسه أن يضحي بمئة واحدة لينهي فضوله وليمتع ناظره وعندما رآها افتتن بها وجعل يفكر فيها طوال يومه وفي اليوم الثاني دفعه الهوى على غير هدى إلى باب بيت السلطان فدفع المئة الثانية لقاء مشاهدة البنت وزاده النظر إليها هوسه وغرامه وملكت عليه لبه فعاد في اليوم الثالث ودفع المئة الباقية لديه من إرث والده ونظر إليها ثم خرج من عندها فقير لا يملك ما يسد به جوعه.
خرج الولد الشاب من المدينة إلى قرية أخرى فنزل عند رجل ميسور فطلب منه أن يعمل عنده فقال الرجل: إذا وافقت على شروطي فقال الشاب: وما شروطك؟ قال: تأكل وتشرب من غير شبع ولا تنهي ما أكلت وما شربت وتعمل من الصباح إلى الليل وإذا غضبت من شيء نأخذ من مؤخرتك رطلا من اللحم.
لم يجد الشاب بدا من الموافقة وذلك لما عانه من الجوع والعطش فجعل يعمل عند الرجل لكن جهد العمل وقلة الأكل والشراب زاد من إنهاكه وعطشه وجوعه فوجد نفسه بعد مدة مجبر على ترك العمل فذهب إلى الرجل فقال: أنا غضبت وسوف أترك العمل فحد الرجل سكينه وقال: أعطني رطلا من اللحم من مؤخرتك فاستسلم الشاب وقطع الرجل من ردف الشاب رطلا من اللحم فذهب إلى بيته يعاني الألم والجوع مستسلما لما يأتي به القدر هناك.
وفي الطريق صادفه أخوه فرأه يتألم فسأله فحكى له قصته مع بنت السلطان وقصته مع الرجل فطلب منه أن يشير له إلى منطقة الرجل الميسور أولا وأعطاه بعض المال وقال اذهب إلى الدار وانتظرني حتى أعود.
وعندما وصل الولد الكبير إلى دار الرجل الميسور طلب منه العمل فحكى له الرجل عن شروط العمل أن يأكل ويشرب ولا يشبع ولا ينهي ما أكل وشرب وأنه من يغضب منهما يؤخذ رطل من اللحم من مؤخرته فوافق الشاب على الشروط في الحال فأشار له الرجل إلى مكان العمل وطلب منه حراثة الأرض لكنه لم يعمل شيئا بل ذهب إلى عريش قريب من المكان ونام حتى جاء وقت الغذاء فصاح بهم اجلبوا الطعام فأرسل الرجل ابنته الوسطى ومعها طعام وشراب فغافلها حتى دخلت عنده وقام إلى الباب وحرسه وأكل كل الطعام وشرب كل الشراب ورمى الأواني إلى الخارج وكسر بعضها وقام إلى البنت فاعتدى عليها واحتجزها عنده إلى حلول الظلام ومن ثم جاء إلى الرجل فقال: يا عم لقد أكلت كل الطعام وشربت كل الشراب واعتديت على البنت ونمت ولم أقم بأي عمل فهل غضبي علي؟ فقال: لا لم أغضب.
بدأ الرجل يستشعر أن هذا العامل يختلف عن جميع العمال السابقين الذين استطاع إغضابهم والاستفادة منهم دون أن يخسر شيئا من ماله وقد غضب من الأشياء التي فعلها لكنه رفض الاستسلام وخاف على نفسه من اقتصاص رطل اللحم من مؤخرته لذلك قال: لم أغضب.
في اليوم الثاني نام كعادته ولم يفعل شيئا وعند حلول وقت الطعام انتدبوا البنت الصغيرة لتحمل إليه الطعام وأوصاها والدها أن تترك الطعام على باب العريش وتهرب بسرعة لكن الشاب انتبه للأمر فاختفى لها في مكان وعند وضعت الطعام مسك بها وزجها داخل العريش حاولت المقاومة والصياح ولكن دون جدوى وكالعادة أكل وشرب كل ما جلبته واحتجز البنت إلى حين حلول الظلام ثم جاء إلى عمه فأخبره بما فعل وسأله هل غضبت علي يا عم فقال: الرجل لا.
في اليوم الثالث لم يغير شيئا من سلوكه ولم يعمل شيئا غير النوم وعند حلول وقت الغذاء خاف الجميع من الذهاب عنده فانتدبت زوجة الرجل نفسها وقالت أنا أوصل له الطعام وهي تظن أنه يحترمها لمقامها ولكبر سنها ولا يعتدي عليها فذهبت عنده فمسكها وأكل كل الطعام واحتجزها عنده وكان لديها طفل رضيع فحاولت استعطافه من أجل الذهاب إلى الطفل ولكنه لم يسمح لها حتى حل المغرب فعاد بها إلى عمه وأخبره بما فعل وسأله هل غضبت مني يا عمي كاد الرجل أن يقول غضبت لكنه تذكر أمر قطع الرطل فخاف من السكين التي يلوح بها الشاب ويحدها أمامه فرفض أن يقول غضبت، وقال له القيام في الصباح الباكر لكي ننتقل إلى مكان آخر وفعلا جاء في الصباح وساعدهم في سوق المواشي والأبقار وفكروا في إعطائه شيئا يحمله لكنهم خافوا من غدره فبادر من نفسه إلى زوجة الرجل وأخذ منها الطفل الرضيع وقال أنا أحمله فلم يتوقعوا أبدا أن يعتدي على الطفل ولكنه بطريقة ما قتل الطفل دون أن يصدر صوتا واستغربت المرأة طوال الطريق سكوت الطفل وعدم صياحه على غير عادته وكلما سألته يقول لقد نام يا سيدتي.
وبينما كانوا في الطريق نزل عليهم الأمطار فطلب منه عمه أن يكنن الأبقار وقال له على سبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل كنن حتى رؤوسها فقال حاضر يا عمي فذهب بها إلى كهف وقطع رؤوسها جميعا وأدخل الرؤوس في الكهف وعندما علم الرجل بذلك صاح به فقال ما أبقيت لنا أنت اعتديت على النساء وقتلت الطفل وذبحت الأبقار أي رجل أنت فقال هل غضبت يا عمي؟ قال: نعم غضبت فقال أعطني رطلا من أردافك فقطعها وذهب إلى أخيه وقال انتقمنا لك من صاحبك وهذا رطلك.
وطلب منه أن يذهب معه إلى بنت السلطان لينتقم له فذهبا وعند كانا قريبين من دار السلطان اشترى كبشا وذبحه وشوى لحمه ورمى بشيء من لحمه إلى الكلاب فاجتمعت عليه كلاب كثيرة تصدر صياحا وتقفز فوقه تريد اللحم فلجأ هو وأخيه إلى بيت السلطان ودق الباب فتحت له الخادمة فاستنجدوا بها لتنقدهم من الكلاب فأدخلتهما البيت فوجد بنت السلطان عندها فجعل يبكي ليستعطفها وأنه خائف من الكلاب حتى أدخلتهما غرفتها بعد فترة وجيزة توضأ الشاب وقام ليؤذن فصاحت به بنت السلطان اسكت وإلا قتلونا هل تعرف أن السلطان لو عرف أنكم هنا يقتلنا؟ فقال أنا ما أترك صلاتي مهما يكون من أمر حاولت البنت إقناعه بإلحاح وجلبت له أربعمئة دينار وأعطته ليسكت فأخذها وأعطاها أخاه فقال له هذا مالك عاد إليك مع الزيادة وجلس لحظات ثم قام ليؤذن فقامت إليه البنت وتوسلت إليه أن يسكت فقال سوف أسكت بشرط أن ينام أخي معك إلى الصباح وأنام مع الخادمة إلى الصباح فما وجدت البنت بدا من الرضى بالأمر الواقع وقبول الشرط وهكذا انتقم الشاب الذي تعلم عند أبي نواص من بنت السلطان لأخيه.
قصص أبي نواص خيالية بلا شك ولكن من ألفها أبدع في تأليفها وهي بلغتها الأصلية طريفة وجميلة بالإضافة إلى أنها تسلط الضوء على ثقافة مجتمع في لحظة زمنية ماضية وما يعانيه الناس من ظلم السلاطين وجهل الناس وانقيادهم لهم دون أي اعتراض ومن المؤسف أن هذه القصص لم تدون ولم تدرس إلى الآن.
المقال خاص بموقع المهرية نت