آخر الأخبار

شتاءٌ قروي!

الاربعاء, 28 ديسمبر, 2022

من بين أشجارِ السدر والزيتون والرمان، تفوح راحةُ القهوة  الزكية الصادرة من فنجان ذلك العجوز الذي خرج للتو من بيته ليستقبل شمس الصباح بعدما تناول مع أحفادة وجبةَ الفطور الدسمة( الفتة المغمورة بالسمن البلدي) يمشي بخطواتٍ بطيئة،  جسدُه لا يتوازن على الإطلاق، يكاد الفنجانُ يسقط من يديه لكثرة ارتعاشهما، لكنه يجلس حتمًا إلى جوار تلك الحجرة الملساء التي ألفته كثيرًا، يخلع معطفه ويتكئ عليه، ثم يبدأ بشرب قهوته  وإسداء النصائح لأحفاده بأن يقوموا بسقي الأشجار قبل أن ترتفع حرارةُ الشمس، وأن يُخرجوا الأغنام ويكرموهن بالحشائش، وما يلبث أن يدعوهم ليُحضروا  له فنجانًا آخرًا من القهوة.

تصل الفتاةُ العشرينيةُ بعد قليل، تلك التي غادرت البيت بعد صلاة الفجر إلى الجبل للاحتطاب وجلب الحشائش اليابسة، وبكل نشاط ترمي الحملة من على رأسها فيرتج المكان  ويصدر العجوز حينها صوتًا متحشرجًا يكسوه السعال الحاد،  يدعو لها بدوام الصحة والعافية، في الوقت الذي تتحرك فيه الأغنام بعجالة تريد أن تخرج من مكانها فهي تعلم أن هذا الصوت هو صوت الوجبة المفضلة لديها، وأن مربيتهن قد وصلت للتو، تصدر البقرةُ والأغنامُ أصواتًا وكأنها ترحب بقدومها، أو هي بالفعل تشكرها على  بذلها هذا المعروف الجميل.

تدخل الفتاةُ  إلى الداخل لتتناول وجبة الفطور التي تركتها لها أمها على الجمر؛ لكي تبقى دافئة في انتظارها، وما بوسعها  بعد تلك الوجبة إلا حمل صرة الملابس المحتاجة للغسل على رأسها وقاورة الماء  بيدها ثم تغادر البيت مرة أخرى ولكن هذه المرة ستكون إلى الوادي (المكان الذي يوجد فيه الماء)  لتغسل تلك الملابس وتجلب الماء مع رفيقاتها من بنات الحارة، ويتخلل تلك الرحلة الكثير من الضحك والخفة والنشاط، والكثير من التنافس على إنجاز العمل بأسرع وقت ممكن، ففي هذه القرى أكثر ما يميز الفتاة هو نشاطها وخفتها.


تمر ساعاتُ النهار كلمحِ البصر فيأتي وقت ما بعد صلاةِ العصر وتبدأ النساء بقلي الحبوب وتحضير الشاي، ثم يصعدن لسطح المنزل مع أفراد الأسرة لتوديع الشمس التي تبدو هادئة بشكل لطيف، وكأنها تخشى على تلك الوجوه الجميلة أن تصاب بالاسمرار،  توزع المرأة  العجوز  بعضًا من تلك الحبوب على الأطفال فيضعون نصيبهم في جيوبهم وينطلقون فرحين إلى الشارع يشاركونها مع أصداقائهم من أطفال الحارة، وتكتفي العجوز بشرب القهوة المرة مع زوجها، وأما بقية النساء والفتيات فهن مغرمات بالشاي مع الحبوب المقلية.

أسطحُ المنازل بهذا الوقت بالتحديد تُملأ بالنساء وكبار السن ويتخلل تلك اللمة الجميلة لعبٌ للأطفال الصغار وحديثٌ نسوي جميل، ربما تمت إعادته مرات لا حصر لها،  لكنه ما يزال شيقًا وجميلًا، وذلك العجوز المركون في الزاوية الأخرى من السطح مهمته مراقبة الأطفال الذين  يحبون في غفلة من أمهاتهم 
فهو بين لحظة وأخرى ينادي الأمهات بأن تنتبه لذلك الصغير الذي يكاد أن يقع، يضرب بعصاه على السطح محاولًا لفت انتباه الأمهات، ثم يشير للطفل بمسبحته حتى يأتي إليها،  فتبادر الأم بسحب صغيرها وهي منهمكة بسماعها لذلك الحديث الشيق.
وهكذا تُقضى ساعاتُ النهار  في القرى، بكل همة وخفة وحب كبير، فالشتاء في القرى له مذاق مختلف تمامًا عن الحضر؛ إذْ لا يعرف أهلها الخمول ولاسبيل للكسل أن يزورهم.

المزيد من إفتخار عبده