آخر الأخبار

طفلةٌ في المدينة!

الأحد, 09 أكتوبر, 2022

على رصيف أحد الشوراع هنا، في هذه المدينة التي اتسمت بالوجع، كانت تحمل بيدها اليمنى قاوروة ماء موشكة على الانتهاء وفي اليد الأخرى قطعة صغيرة من الخبز اليابس وأمامها كيسٌ  مبلل بالماء داخله بعض الخضرة تبيعها للمارة أمامها.


كانت تلتهم ذلك الخبز اليابس بشراهة توحي لك أن هذه الصغيرة مضى عليها وقت كبير من دون ماء أو غذاء، شعرها أشقر،  جميل إلى حد كبير لكنه مليئ بالغبار وثيابها تسرد حكاية الوجع الذي يعيشه أطفال اليمن الذين فقدوا أباءهم ورمى بهم الزمن إلى أحضان الهلاك دون أن يعقب.

الشيء اللافت في هذه الصغيرة أنها نشيطة جدًا،  نشيطة إلى حد يجعلك تنظر لذاتك بعين اللوم والتأنيب،  عندما ترى صغر حجمها وخفة حركتها وابتسامتها التي ما تفارق شفتيها، تسأل نفسك من أين لها بهذا الجمال  وهذه القدرة الكلامية التي لا يقدر على إتقانها الكبار؟!.


تُخرج بعض الخضرة من كيسها وتعرضها على كل من يمر من أمامها، ترمقني بعينها بتساؤل أحسست من خلال نظرتها كأنها  تقول لي: إما أن تأتي وتشتري أو تذهبين من أمامي، لكنها سرعان ماغلفت هذه النظرة الحادة بابتسامة عريضة ساقتني إليها بكل حب.

سألتها عن أسعار الخضرة التي تبيعها فقالت الواحدة بمئة ريال، انظري إليها إنها جميلة جدًا خضراء كأنها بعين الماء، اشتمي الكزبرة، إنها تحمل رائحة قوية ستجعل طبخك يفوح  ويفتح شهية كل من في بيتك.
  كانت تخرج بعض الخضرة من الكيس ترصها بانتظام على الكيس الآخر ثم ترش عليها الماء من القاروة الأخرى التي ملأت غطاها بالثقوب.

  سألتها هل تركت المدرسة وجئت هنا للبيع؟ بادرتني بابتسامة ساخرة، أي مدرسة؟ اليوم جمعة ياخالة وأنا أدرس لكنني في يوم الجمعة آتي هنا لأبيع الخضرة بدلًا عن أمي؛ لأنها تعمل  بالبيت،  فيوم الجمعة والسبت هما إجازتي من المدرسة وإجازة أمي من العمل في بيع الخضرة.
 
نحن نشتري كل يوم كيس كبير من هذه الخضرة ونأتي إما أنا أو أمي لبيعها هنا لنحصل على مصروفنا اليومي منها،  حينها سألتها وهل المردود من  هذا الكيس يكفي لمصاريف يومكم؟، قالت  بابتسامة من يريد إنها الحديث نعم يكفي  وإلا لما جئنا لنبيع، هكذا تقول أمي هذا هو مصدر رزقنا بعد وفاة أبي ويجب علينا ألا نتخلى عنه أبدًا.

  أدارت رأسها تبحث عن مشترٍ آخر والناس يأتون إليها بابتسامة، كان البعض يسألها كيف حالك يا أمل وترد عليهم بفرح شديد- الحمد لله- ثم تبيع  بعجالة، وبعدها أخبرتني بقولها، أتدرين إنني أبيع أحسن من أمي، انظري بقي القليل وسأكمل بيع الخضرة وأعود إلى أمي، اليوم ستتفاجأ  عندما أعود مسرعة، ترفع وجهها للسماء يا رب إني أكمل قبل أن تبدأ الصلاة،  انظري إلي أريد أن أغتسل وأغير ملابسي.


قلت لها أنتِ جميلة وملابسك جميلة أيضًا قالت: ملابسي ؟.  لا ليست جميلة هذه أنا أخصصها للسوق لأنني لا أريد أن أبلي ملابسي الأخرى هنا، أنا  أمتلك  في البيت أفضل منها ولكني أدعها للمناسبات حتى لا يعرف الناس أنني يتيمة وينظرون لي بشفقة.

كم أنت رائعة أيتها الصغيرة، تكرهين  أن ينظر لك  بعين الرحمة وتحملين بداخلك كل هذا الشموخ والإباء وكل هذا النشاط، ما أجملك  وسط هذه المدينة  وما أجمل المدينة بك.  

** المقال خاص بالمهرية نت **

المزيد من إفتخار عبده