آخر الأخبار
الكرامة والجدار.. في الذكرى الـ 11 لشهداء كرامتنا
الحدث كان ساحة جامعة صنعاء وأزقتها المتصلة شرقا وغرباً، التاريخ يوم 18 مارس 2011، الجدار كان حاجب الزعيم صالح، والتضحية كانت الأبرز في الحالة الثورية والنضال السلمي.
بعد شهر من وقع الاحتجاجات المطالبة برحيل صالح، التي بدأت مطلع فبراير من العام نفسه واتساعها لتشمل العاصمة صنعاء ومعظم محافظات الجمهورية اليمنية، كانت كلمة ارحل صوت الشارع ، وهي تعبيراً عن حالة الانسداد السياسي بين سلطة صالح والشارع والرافض لسلطته.
ارحل هي إرادة التغيير، إلا أن ساسة اليمن كان خيارهم التصدي للاحتجاجات بقوة السلاح هو الحل، فخلال التاريخ السياسي للاحتجاجات تظهر القوة والعنف كخيار وحيد للتصدي لمظاهر السخط الشعبي.
في صنعاء كان الشارع يتسع للحراك السلمي، في المقابل كان بناء الجدار خيار السلطة لمنع المحتجين من التوسع والحد من حركتهم.
كانت الأزمة اليمنية حديثة العهد والمَخرج منها يبدو إجبارياً وهو ما عبر عنه المحتجون بكلمة (ارحل)!. لذا حشد صالح جيش من الإعلاميين وبلاطجة وعشرات المرتزقة، والاحتجاجات تزداد اتساعا والأزمة السياسية تتفاقم.
في يوم 18 مارس 2011 أنهت عناصر تابعة لصالح بناء الجدار وأحكموا الإغلاق على المدخل الرئيس لساحة الجامعة في قلب صنعاء، لكنه كان مؤشرا واضحا على أن صالح أغلق الباب على نفسه أيضاً، كما أغلق الأئمة باب اليمن قديماً إيذانا بالخلود إلى النوم!.
انتشر خبر خلف الجدار أن عشرات المرتزقة محتمين بقوة صالح وسلاحه، قرروا إخماد حراك ساحة جامعة صنعاء، ولأن شعيرة الصلاة عند المسلمين مقدسة وتشعرهم بالأمان، أمر صالح بانتزاع أرواح الآمنين وهم يؤدون صلاة الجمعة!.
اشتعلت النار فأخمد اشتعالها الدم، وعلت سحب الدخان وتلاشت فجأة بصراخ المعتصمين، بينما القتلة خلف الجدار وخلف صالح وخلف الدخان، وساحة الاعتصام مجللة بالدم، دخان يتصاعد ويملأ الأفق، جرحى وقتلى بالعشرات، تلك هي أبرز ملامح يوم الـ 18 من مارس 2011.
ساحة جامعة صنعاء لها مداخل عديدة، ومن على منصتها علت أصوات الهتافات وخطبة الجمعة، وفي طرفها الآخر تصاعد الدخان، وما بينهما دم الشباب المسفوح يخضب ملابسهم باللون الأحمر، تطايرت الأشلاء وتجمعت الدماء قرب الجدار ، فكانت المذبحة في تلك الجمعة المباركة.
ولأني شاهد، فقد رأيت وجوه الجرحى ووجوه القتلة خلف الجدار، ورأيت الجدار يهوي مؤذنا بسقوط صالح، وكانت وجوه العابرين يكسوها التعب والحماس في آن، والناس أمامي وبجواري وأنا كرجل الثلج عاجز عن الحركة ألتزم الصمت، عاجز عن الحديث والحركة معاً.
علت أصوات صراخ الجرحى وعلت أكثر أصوات الرصاص، وهناك على الطرف الآخر من ساحة جامعة صنعاء تعلوا أصوات الأطباء "أرهقنا التعب ونزيف الدم من أجسام الشباب"!، بينما أنا أقف شاردا حافي القدمين فقدت الشعور والهاتف، وفقدت أيضاً عشرات الأصدقاء.
مشهد مهيب ومؤلم وحزين لم أر مثله من قبل، أقدام مخضبة بالدماء، ولقطات وصور مازالت في الذاكرة حتى اليوم، يجب علينا توثيقها والاحتفاظ بها لتكون ذاكرة للثورة والوطن وللأجيال، لتكون شاهدة على قبح صالح وحكمه.
بُغية إيقاف هذا النزيف عبَر عشرات الشباب حاجز الجدار وأسقطوه أرضا ثم لاذ قتلة صالح بالفرار، لقد كان المشهد مروعا وأحداثه متسارعة، حيث سقط عشرات القتلى، وعددهم في ازدياد، تناقلت وسائل الإعلام الحدث، وتناقلته وكالات الأنباء وصار حديث الناس بمختلف فئاتهم وشرائحهم وتوجهاتهم، فالمشهد مروع وأحداثه تتسارع، لقد سقط عشرات القتلى، والعدد في ازدياد.
من ترك حذاءه خلف الجدار لن يعود، ومن نُقل إلى مستشفى الساحة على أكتاف الشباب لن يعود أيضاً، فمنذ الساعة الواحدة ظهراً حتى الساعة السادسة مساء ونحن نحصى الجرحى والقتلى، بينما الزعيم صالح يحصي أنفاسه هناك خلف الجدار، في دار الرئاسة.
رحل في تلك الليلة نيّف وخمسون شابا، وخيّم الظلام على مئات من العوائل اليمنية، لقد كان رحيلا مؤلماً لتلك الكواكب من الشباب، ذوي السجل الحافل بالتفوق، لقد انتزع صالح أرواحهم من خلف الجدار.
رحلوا في ثلاث ساعات كان صالح على رأس تلك الجريمة والدلائل على ذلك واضحة، لكن الفرق كبير والبون شاسع بين رحيله ورحيلهم، رحل صالح بدون صلاة، أو موسيقى، أما الشباب فكان الدفن لكرامتهم أشبه بمراسم عرس جماعي مكللين بالورود.
كان هدم الجدار إيذانا بهدم معبد صالح، حين اختار هدم المعبد على الجميع، فالشباب الذين قتلوا في هذا اليوم 18 مارس 2011 كان قتلهم متعمداً، أما صالح فذهب إلى حتفه بنفسه، جراء حالة اليأس والإحباط التي لازمته في نهاية حياته، فكل المبادرات التي أُهديت له رفضها واختار طريق الهدم والموت، تجسيدا لقوله تعالى "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".
إرحل.. كانت هي الخلاصة، لم يعد لدينا شبح ولا جدار ولا زعيم ولا ورثة لسلطة صالح ، لقد ترك صالح مخالب إرهاب (الحوثي ومليشياته) وانتزاع هذه المخالب من الجذور يبدو أكثر إيلاما، إلا أنها مخالب شبح ميت مازال في ثلاجة مجهولة المكان، وانتزاعها هو الخيار الوحيد وإن بدت لنا أنها عميقة الجذور .
المقال خاص بالمهرية نت