آخر الأخبار
الثورة اليمنية ومخاض عسير
يؤرقني كثيرًا أننا عبثًا نثور ضد المنظومة، بكل قذارتها من جهل وتخلف واستبداد وطغيان وفساد، وهي منظومة تتعدى حدود المناطق والسلالات والأعراق والثقافات، تجمع في طياتها من كل شيء ننتمي له قطرة بل قطرات، تتكتل وتحمي بعض، وهي تختار بعناية أدواتها من المنافقين الأفاقين، والأنذال والحاقدين، والفاسدين والواطئين، القابلين للشراء والارتهان والتبعية.
فتذهب جهودنا مهب رياح المناطقية والطائفية والاثنية، والتعصب الأيدلوجي والحزبي، حيث تجد ما يخدمها بين نفوس تضررت والتجأت لتحتمي بتلك العصبيات، فتثير تلك النزعات في أوساط مجتمع متضرر يتقبل الشحن والتحريض، وتراوغ في الإثارة للنزعات ولتأجيج الصراعات الهامشية لتحميها من غضب الثورة والثوار.
ها نحن اليوم نشهد عبثا لا مثيل له، عبث حول ثورة شعب ضد منظومة فاسدة وطاغية ومستبدة، لصراعات عصبيات وأيديولوجيات ومناطق وطوائف وأعراق وسلالات، استدعت كل أعداء الثورة والتغيير والتحول المنشود في الخارج لدعم الداخل، في مواجهة ذلك الغضب الذي كاد أن يوحد الناس في الشمال والجنوب في والغرب والشرق، وكاد أن يحدث تغيرا حقيقيا في المنطقة برمتها.
اليوم الصراع واضح المعالم، مهما حاول البعض تبرير مواقفه المخزية في صف الثورة المضادة، بعناوين مختلفة، جمعتهم المؤامرة، واستخدموا استخدم قذر، من أقذر منظومة عرفتها اليمن منذ الثورات اليمنية، وبكل بجاحه يبتهجون بعودة حكم المنظومة (النظام السابق) دون أن تصحو ضمائرهم، أو ترشدهم عقولهم لجادة الصواب.
بعضهم يضع ثورة الربيع اليمني في دائرة الاتهام، بحكم انضمام جزءا من المنظومة لها، دون أن يدرك أن الثورة تنطلق بصورة عفوية، وتهدف للتغيير والتحول للأفضل، وهي حق لكل من يتبرأ من النظام الذي قامت لتغييره، ويقبل بالتغيير، ويفترض أن تكون الأقوى في شعبيتها وجماهيرها، والعكس عندما يتركها جزءا من الشعب ويذهب بعيدا عن أهدافها العادلة وغاياتها السامية والنبيلة.
إذا الثورة لم تخذلكم، خذلتكم مواقفكم المخزية، وأفكاركم المشوهة، والعصبيات والنزعات والغلو والتطرف، الذي جرفكم بعيدا عنها، لتجدوا أنفسكم في مسار الثورة المضادة، ضد كل ثائر يرفض عودة النظام والمنظومة السياسية التي كانت السبب الرئيسي فيما نحن فيه ولازالت، تتلقى الدعم الخارجي، دعم عسكري ولوجستي، وأنتم جزءا من ذلك الدعم، الذي استطاع الخارج أن يطوعه بالمال لخدمة عودة النظام ودعم المنظومة الفاسدة، وصناعة أدوات وأصنام ووهام عودة النظام.
ما يزعجني جدا هو العبث في البيئة الثورية في الجنوب اليمني، التي يفترض لها أن تكون داعم قوي وعمود رئيسي في ثورة التغيير، وأكثر إزعاجا هي عدن، منبر الثقافة الثورية، وبيئة نمو وتشكل نواة الحركة الوطنية اليمنية، عدن التي التجأ لها كل المفكرين ومناضلي الثورة الأوائل، وكانت لهم منطلق نشاطهم الفكري والثقافي والسياسي والثوري، والدعم اللوجستي والعسكري، من عدن توحدت كل جهود الحركات الثورية اليمنية، وتبلورت أفكارها وأثمرت ثورات لم تفرق بين شمالي وجنوبي، هب الجنوب لنصرت الشمال، وهب الشمال لنصرت الجنوب، وكانت تعز وأب وصنعاء منطلق حركة القومين العرب وجبهة تحرير الجنوب اليمني، واليوم بعبث الأنذال بكل تلك الثمار، وبدعم مالي ولوجستي لإقليم كانت الثورة اليمنية كابوس أجدادهم، وكانوا في صف أعدائها، وانتصرت عليهم قبل أن تنتصر على أدواتهم في الداخل.
هذا التاريخ وذلك الإرث المتوارث، وضع كل يمني في محك الأحداث، يا أن تكون في صف ثورة اليمن العظيم، ثورة الأجداد والأسلاف، أو تكون مع أعداء اليمن وثورته ومستقبله، وتنجرف مع تيار المشاريع الاستعمارية، مشاريع القوى الرجعية العربية، مشاريع حكم العائلات والأسر، وتوارث الأرض والبشر، حكم عفا عنه الزمن، ولفضته اليمن منذ قرن.
ما يؤرقني اليوم هي تلك المشاهد التي تحمل زورا عناوين الثورة، وإعلام الثوار الأوائل، وفي مضمونها خالية من كل ثقافة وأفكار الثورة والجمهورية والوحدة، شعارات ورايات الثورة وتضحيات الأجداد والآباء.
ومن العار أن نشهد عودة السلاطين والمشايخ والإمامة، وحكم الإقطاع الذي يحيي فينا تعصبات اثنية (مناطقية طائفية) بل تجزئ كياننا لمناطق وسلالات وأعراق، ترسم حدود ما قبل الثورة، وتعيد أفكار ما قبل الجمهورية، وثقافة وما قبل الوحدة، إنها لعنة الجوار التي حلت علينا، وتأمرها منذ قيام الثورة وها هي اليوم تقطف جهود تأمرها، بأدوات منا وفينا.
ولازال المخاض قائما، والمقاومة شديدة، ولن يستسلم شعب حي بضمير حي وعقل يفكر ويستوعب ما يدور حوله، ولن يحق إلا الحق، ولن يصح إلا الصحيح.