آخر الأخبار
النجاح ليس تدبيرا عقلياً محكماً لكنه مغامرة مكتملة !!
ستصدر خلال الفترة القليلة القادمة مذكرات الأستاذ علوان سعيد الشيباني ( 1936- ) التي تحمل عنوان (الحياة ُكما عِشْتُها)، وهي كتابة تغطي رحلة كفاح شاقة وطويلة - تبدأ من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي- لواحد من رجال الأعمال اليمنيين المعدودين، الذين جمعوا بين الثقافة الرفيعة ونُبل المقصد في جمع المال وإنفاقه على مشاريع تنموية، تتكئ على التعليم ، والصحة ،ودعم الشباب والموهبين، والفئات المهمشة ،وطباعة الكتب ،ودعم مشاريع الأبحاث الكبيرة - مشروع دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية عبر تاريخها الطويل، بمشاركة أكثر من أربعين باحثاً واستاذا جامعياً من الجامعات اليمنية ومراكز الأبحاث داخل اليمن وخارجه.
المتعمق في قراءة هذه التجربة ، لابد أن تستوقفه الكثير من المحطات التي كانت فيها المغامرة مُشغِّلاً حيوياً في قصة كفاحه الطويل ، ودليله الأكبر الى اجتراح الممكن من النجاح في محيط لا يدعم مثل هذا التوجه؛ فتصير المغامرة، تبعاً لذلك فعل إن اُخضِع في سياقه الظرفي لإعمال العقل لابد من نفيه ورفضه بالمطلق، خصوصا وأنها - أي المغامرة- كانت في الأصل ذهاباً إلى المجهول بعتمته وجنونه، كما تُفصح عنه السيرة الطويلة، التي صارت ملمومة في هذا الكتاب.
فمثلا ما الذي يجعل طفل على عتبة المراهقة يقرر في العام 1949م السفر مع شخص من قريته - المدهف بشرق بني شيبة - الى بلاد مجهولة كالحبشة، وهو لا يعرف أهلها ولا لغتها، ولا يمتلك مهنة محددة يمكنه الاعتماد عليها في الجغرافيا التي سيسافر اليها ؟ ولماذا لم تستطع دموع والدة هذا الطفل وفزعها من ثنيه عن السفر ومشاقه ؟ ، وهو الذي كان باستطاعته السفر مرة أخرى إلى عدن مع أبيه، الذي يعمل طبَلاً وجمَّالاً معروفاً عند أهل قريته، والعمل من جديد في مطعم "فتح الرحمن" ،أو ما يعرف بمطعم "تحت الأسدين" الذي يمتلكه خاله في مدينة الشيخ عثمان، الذي سبق وأن عمل فيه الطفل وهو في العاشرة من عمره، دون أن يفجِّر سفره البعيد بركان الفزع في صدر أمه الريفية البسيطة... بالتأكيد أنها المغامرة.
في سياق روايته قال: إن مغامرته الأولى لم تكن هي قرار سفره الى الحبشة، وإنما كانت حينما وضع مبلغاً زهيداً في لعبة الثلاث ورقات كانت تُلعب تحت إحدى أشجار الشيخ عثمان فخسر المبلغ، والذي كان يخص شخص آخر أرسله والده لإيصاله ، وحينما عاد الى أبيه أدعى أنه ضاع عليه في زحمة السوق، فاستحق عن ذلك عقاباً من والده، ومع ذلك بقت المغامرة أسلوب حياة في سيرة صاحبها.
وما الذي يجعل ذات الفتى وبعد أعوام قليلة، من تلك الواقعة يستغل سفر صاحب مطعم الطاؤوس إلى اليمن ويُقبِل على مغامرة شديدة الخطورة وهي شراء مطعم في مدينة (ديردوا)الأثيوبية، حيث استقر به المقام في هجرته الحبشية الباكرة، وكان هذا المطعم في الأصل ينظِّم فعاليات مصارعة، وبه صالة بلياردو ومكائن صنع قهوة " الاكسبريسو" لمجرد أن الفتى يحب المصارعة، ومعجب بمكائن صنع القهوة؟ هذا المطعم لم ينجح بسبب عوامل عديدة وعلى راسها، صعوبة إدارته، كون الخدمات التي يقدمها ، المحل الجديد، تختلف كلية عن خدمات مطعم بسيط كالطاؤوس، التي اعتاد عليها الفتى وصاحب المطعم، فاضطروا لبيعه بنصف قيمته الفعلية. وبمناسبة حبه للمصارعة قال أنه أثناء فترة دراسته في طنطا في العام 1958م اشترك في مسابقة مصارعة، وجاء حظه في مصارعة طالب آخر ،وزنه وحجمه يفوقانه بضعفين وليس ضعفاً واحداً، وأدى عدم التكافؤ في اللعبة الى تعرَّض الفتى لضرب مبرح، أقلع بعده نهائياً ليس فقط عن مزاولة المصارعة وإنما التفكير بها أيضاً.
وما الذي يجعل الشاب يفكِّر في العام 1954م القيام برحلة سفر الى مصر بواسطة القطار عن طريق أديس أبابا والخرطوم، لاقتفاء أثر صديق له ذهب للدراسة في القاهرة، وهو لا يعرف الجغرافيا وليس معه هوية أصلية ، وليس لديه شهادة؟ بالتأكيد هي المغامرة، لكنها هذه المرة في سبيل العلم ، أو هكذا كان دافعها في الأصل، ولولا إرجاعه بواسطة أحد أصدقاء الهاشمي من محطة أديس أبابا ، لكانت اختلفت السردية الكبرى لشخص اسمه علوان الشيباني .
وبسبب حبة للتعليم، قام بمغامرة أقل قسوة ، حين استلف بدلة وكاميرا من أحد اصدقائه، لإهدائها لاحد موظفي قنصلية الإمام بالقاهرة في العام 1961م، حتي يسهِّل له الدخول في اختبار تنافس على منحة دراسية تمولها وزارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ، لكنه قام بمغامرته الكبرى حين أصر على مواصلة الدراسة في كنساس في ظروف شديدة القسوة، حينما أوقفت الحكومة الأمريكية منحته لأسباب سياسية. والقصة هنا ترتبط بذات التساؤل: ما الذي جعل طالب الهندسة المجتهد يحمل لافتة إدانة للرئيس الامريكي " ترومان" في عيد ميلاده، في حشد كبير من الطلاب والضيوف؟ فكاد هذا الأمر أن يغيِّر طريق حياته كلية بحرمانه من المنحة، وطرده من الولايات المتحدة الأمريكية، بالتأكيد هي المغامرة التي توجهها هذه المرة المسئولية الأخلاقية والشعور الوطني حيال قضايا الأمة.
وما الذي يجعل الشاب شديد الطموح يترك وظيفة حكومية في وزارة سيادية في صنعاء اسمها " وزارة الخارجية" وفي وظيفة رنانة عنوانها مدير عام دائرة " أوروبا الغربية والأمريكيتين"، بعد أقل من أسابيع ثلاثة على تسلمه العمل، والذهاب الى مدينة عدن للعمل في مؤسسة حكومية للتخطيط والتدريب، في ظروف شديدة التعقيد وتحت ضغوط نفسية هائلة؟! بالتأكيد هي المغامرة التي تصير في سياقها الظرفي مشغلا ًحيويا لتجاوز القولبة والتنميط والتشابه، التي كانت ستتلبس الشاب ، وستمتص كل حماسه وطموحه، إن بقي في وظيفة لم يعمل بها شيئا يذكر؟
وما الذي جعل الرجل الأكثر تمرساً في الحياة، ترك عمله في مؤسسة تجارية، شهدت في صنعاء على يديه في أقل من عام وثبتها الكبرى، ونعني هنا " وكالة راشد للسفريات والتجارة"، وينتقل وبذات المرتب، الى شركة حكومية " طيران اليمنية" وهي في وضع بائس ومكبَّلة بالديون ؟!.. إنها المغامرة التي يريد الرجل بواسطتها نفخ الروح في حديد السماء، وهو ما كان فعلا خلال عامين.
وما الذي جعل المدير الناجح والأكثر حيوية في أن لا يكون رقماً في معادلة التنافس والخصومات في شركة "الخطوط الجوية اليمنية "؟! ، فاراد البعض منهم تصفية حسابه مع الشركة من خلاله، فخاض في سبيلها معركة قضائية منصفة كانت حديث الوقت حينها... إنها بالتأكيد مغامرة الضمير اليقظ والقيمة الأخلاقية في إدارة الخصومات، وهو الذي كان باستطاعته أن يرضخ ويستكين ، لشراء رضاء غيره من النافذين، ويستمر في موقعه كمدير تجاري وقائماً بأعمال رئيس الشركة.
النجاح، في قصة حياة علوان الشيباني ليس تدبيرا عقلياً محكماً لكنه مغامرة مكتملة ، قادته إلى صناعة اسمه الرائد كرجل السياحة والفندقة في اليمن على مدى عقود، وهو في ظرف مثل هذا لم يزل يقاوم، للإبقاء على هذه التجربة مثالاً يحتذى، حتى يُستطاع (التركيم) عليها، في تجارب ستلحقها، لتكون شاهدة في المستقبل على تعافي اليمن.
المقال خاص بموقع المهرية نت