آخر الأخبار
(الصيَّاد) المضيء في الأزمنة المظلمة
على غير عادة كتب المناسبات الرثائية، جاء كتاب " المضيء في الأزمنة المظلمة" ، الذي صدر بمناسبة أربعينية الدكتور أحمد الصياد (1950-2021) في صنعاء نهاية الأسبوع قبل الماضي مختلفاً في كل شيء .
مجموعة المقالات التي اختيرت من كتابات الشخصية الثقافية الدولية (ممثل اليمن في اليونسكو ثم مساعد المدير العام للمنظمة الدولية لشئون العلاقات الخارجية والتعاون) غطت بعض من اهتمامات وانصرافات الراحل الثقافية والسياسية والتربوية خلال ثلاثة عقود، وإن الكتابات المنتقاة عن الرجل واسهاماته ومؤلفاته الأدبية والفكرية والسياسية وأنجزها مجموعة من الباحثين والمثقفين اليمنيين والعرب غطت معظم الخارطة المتنوعة في مسيرته الثرية والمؤثرة.
أما الحوارات المنشورة في هذا الاصدار فقد كانت سياحة مهمة في أفكاره وقناعاته السياسية والثقافية. تحرير وتنظيم المحتوى الذي قام به، وباحترافية عالية، المثقف محمد النصيري منح الكتاب حيوية اضافية ومريحة للقراءة.
استوقفتني ، في هذا الاصدار، العديد من اسهامات د أحمد الصياد ومقالاته المتنوعة والمعاد نشرها ، ومنها ما أسهم به في ندوة "أولويات التربية المستدامة" التي نظمت في بيروت في العام 2006 م ، حينما طرق جملة من القضايا الرئيسة التي تشكل تحدياً أمام العملية التعليمية في الوطن العربي ومنها:
- مشكلة الأمية، والتي لايزال التحرر منها يشكل العامل الحاسم للمشاركة والتنمية على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. نسبة الأمية حتى ذلك التاريخ كانت تشكل ما نسبته 37%، وهذه النسبة بالتأكيد قد زادت بسبب ما مرت به المنطقة من أزمة وحروب وكوارث؛ وأمام وضع كهذا، لا تستطيع معظم الدول العربية أن تحقق أهداف التنمية، ولا أهداف منتدى دكار في تحقيق التعليم للجميع بحلول 2015، وبخاصة في مجال محو الأمية والمساواة بين الجنسين في مجال التعليم. وبما أن عملية محو الأمية تشكل جوهر التربية الأساسية وحقاً من حقوق الانسان، فان تعطلها يؤثر بشكل واضح وملموس في تعثر معظم الدول العربية في انجاز بعض الأولويات الأخرى للتربية المستدامة.
كما يقول
- الحق في التعليم بشكل عام، وقد نصت المادة 26 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان على أن "لكل شخص حق التعليم"، وهو حجر الأساس وأولى أولويات التربية المستدامة؛ وهذا ما تحتاجه المنطقة العربية على وجه الخصوص ،لأن الدول العربية وبعد مرور أكثر من نصف قرن على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم تحقق بعد التقدم الذي ينبغي أن تحققه في مجال التربية المستدامة من حيث الكم والكيف. ولهذا لاتزال مشاركة الإنسان العربي في مسار التنمية في جميع جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية، غير مناسبة إن لم نقل هامشية.
- إلغاء التمييز في مجال التعليم، فما تزال أهداف الألفية التي دعت إلى إلغاء التمييز القائم على أساس الجنس في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي والقضاء على التمييز في كل مراحل التعليم بعيدة المنال في كثير من الدول النامي، وعلى وجه الخصوص في الدول العربية ، فالفجوة تزداد اتساعاً في مجال المساواة بين الجنسين في التعليم في المنطقة العربية، حيث يُحرَّم على ملايين الفتيات من التمتع بفرص تعليم متكافئة مع تلك التي يتمتع بها الذكور، وتتفاقم مشاكل الزواج المبكِّر.
في قراءته لكتاب محسن العيني (خمسون عاماً في الرمال المتحركة) حال صدور طبعته الأولى في العام 2000 طرق الصيَّاد العديد من القضايا التي قفز عليها صاحب الكتاب، الذي بقي لسنوات طويلة في قلب المشهد السياسي وأحد صنَّاع قراراته، أو لم يطرقها بما فيه الكفاية، أو تعامل معها من موقف الخصومة والإهمال ومنها: أمنية صاحب الكتاب ،والذي عاش شطراً من عمره طالباً في السوربون أواسط الخمسينيات، لو أن رؤساء عرب أمثال جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وحافظ الأسد، ومعمر القذافي، عاشوا في الحي اللاتيني وبالقرب من مقبرة العظماء، لكان الأمر أثرَّ فيهم بشكل ايجابي فيما يتصل بمراعاتهم لحقوق شعوبهم. فرأي الصيَّاد في هذا التعريض مناسبة لتذكيره بدكتاتور أهمله وهو علي عبد الله صالح، فخاطبه بقوله :
" لا أعرف إن كان نسيانكم لعلي عبدالله صالح، الذي يجثم على جماجمنا منذ 1978م، ويحضِّر لتوريث حكمنا أمام أعين الجميع، من باب النسيان أم أنكم قد تجاهلتموه لقناعاتكم أن صالح ليس صالحاً لشيء ، حتى لو عاش في قلب الحي اللاتيني ، وعلى بعد أمتار من مقبرة العظماء؛ فإذا كان قصدكم هكذا ، فأنا أشاطركم الرأي ، بالتالي لا يوجد بيننا خلاف " ص 71
يتوقف الصياد في هذه المقالة عند حادثة تصفية القائد عبد الرقيب عبد الوهاب (رئيس هيئة الأركان وقائد قوات الصاعقة) قائد معركة فك الحصار عن صنعاء ، والتي لم يقاربها محسن العيني في مذكراته ، فخاطبه بقوله:
" لقد كنتم حقاً بعيدين عن مسرح الجريمة، لكن معلوماتكم عن تلك الأحداث مهمة جداً، خاصة وأنتم على الدوام في مقدمة من يدين أعمال العنف ومن دعاة السلام والساعين نحوه طيلة مسيرتكم النضالية" ص73
في نقاشه لحالة الحرب العراقية الايرانية، والغزو العراقي للكويت، وهي الحرب البعثية والعبثية كما يسميها، والتي حصدت أرواح الآلاف من البشر واحرقت مليارات الدولارات لا لشيء إلاَّ لعجرفة ديكتاتور ووهمه بعظمته وقدرته على إحراز بطولات ودخول التاريخ من أوسع أبوابه. أما غزو الكويت فجريمة أخرى، كما يقول، صفَّق لها وطبَّل أكثر من شخص، وضلع فيها أكثر من نظام، وفي المقدمة نظام علي عبدالله صالح، الذي ابتهج فرحاً ، وحرَّض الجماهير على الخروج في المظاهرات تأييداً ودعماً لصدام ، {متناسياً إسهامات دولة الكويت في دعم الشعب اليمني شمالاً وجنوباً ، ومن أكثر الشواهد على حضورها في حياة اليمنيين قيامها بدعم البنية التحتية للتعليم العام والجامعي ودعم القطاع الصحي والثقافي( مدارس ومستشفى الكويت وجامعة صنعاء ودار الكتب) }.
في موضوعه اليسار اليمني ، وهو في الغالب عرض مكثَّف لفكرة كتابه المعنون (اليسار اليمني ظالم أم مظلوم) ينجز أحمد الصيَّاد قراءة تاريخية لنشوء الأحزاب القومية اليمنية، منطلقاً من التعريف الشائع الذي يقول:
" كل الحركات والأحزاب والمنظمات التي تسعى إلى القيام بتغيير شامل في بنى المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية ، وتؤكد في برامجها على مُثُل ومبادئ انسانية ، مثل التحرر بمعناه الواسع ، وكذلك قيم الحريَّة والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، جاعلة من مبدأ الدين لله والوطن للجميع أحد المرتكزات الأساسية في نهجها ورؤاها" ص42
وفي موضوعه ، مثل كتابه، يتتبع نشوء الأحزاب القومية واليساري، ويبدأها بتأسيس أول فرع لحزب البعث العربي الاشتراكي في عدن عام 1956 ، ليمد نشاطه إلى شمال اليمن ابتداء من العام 1958، وقد كان لنشاط الطلبة اليمنيين العائدين من دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد الأثر الواضح في بروز هذا الحزب القومي العتيد في بلد مغلق وقصي مثل اليمن في ذلك الوقت.
يقول عن الحركة الناصرية في اليمن: أنها برزت وبشكل قوي خلال الفترة بين 1956-1960، أي في مرحلة صعود نجم الرئيس جمال عبد الناصر كزعيم قومي وقائد شجاع ومخلص . أما حركة القوميين العرب فقد أسست أول فروعها في جنوب اليمن في صيف العام 1959، وفي ذات العام اسست فرعها في الشمال، وشكل الفرعان امتداداً تنظيمياً وفكرياً لحركة القوميين العرب في المشرق العربي ، وكان التعبير الأبرز لهذه الحركة تأسيس" الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل" ، التي انبثقت عن مؤتمر شعبي عام عقد في صنعاء في مايو 1963، وشاركت فيه القوى والعناصر المؤيدة للكفاح المسلح.
التيار الماركسي ستكون ولادته كتنظيم سياسي في عدن على يد عبدالله باذيب في اكتوبر 1961 تحت مسمى ( اتحاد الشعب الديمقراطي) ، بعد أن كان أعضاؤه عبارة عن مجاميع متفرقة بدأت تعلن عن حضورها مطلع الخمسينات، وهذا الحزب امتد لاحقاً إلى الشمال بعد ثورة سبتمبر مباشرة.
وبعد مراجعة شاملة لمسارها ورؤاها، بدأت بعض الاتجاهات القومية من الاتجاه يساراً معتنفة أيديولوجية الاشتراكية العلمية ، فأسست تنظيماتها الجديدة ، ومنها مجاميع القوميين العرب، التي قامت بإعلان نفسها في العام 1968كحزب يمني خالص بتوجه اشتراكي علمي صار اسمه ( الحزب الديمقراطي الثوري اليمني) ، وتلى هذا التحول تحول مماثل في أوساط عناصر تقدمية تنتمي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، حين اعلنت إنهاء علاقتها التنظيمية والفكرية بحزب البعث على المستوى القومي ، وتم تأسيس "حزب الطليعة الشعبية " في العام {1973}، كحزب ملتزم بأيديولوجية الطبقة العاملة في جانبها النظري والعملي.
تأسس (حزب العمل اليمني) في أواسط السبعينيات من القرن الماضي من نخبة من المثقفين الماركسيين اليمنيين، وفي ذات الفترة ظهرت (منظمة المقاومين الثوريين اليمنيين) من عناصر خرجت من الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وتبنت الكفاح المسلح في سعيها إلى اسقاط النظام الحاكم في الشمال, ومجمل الأحزاب اليسارية هذه بادرت في العام 1976 لتشكيل(الجبهة الوطنية الديمقراطية) التي خاضت كفاحاً مسلحاً ضد نظام الحكم في الشمال والتي عرفت في الأدبيات السياسية بحروب المناطق الوسطى ولاحقاً ستنصهر هذه الجبهة واطرها الحزبية في (حزب الوحدة الشعبية) الذي سيكون امتداداً للحزب الاشتراكي اليمني، الذي تأسس في 14 اكتوبر من العام 1978، بعد تذويب التنظيم السياسي الموحد- الجبهة القومية، الذي نشأ قبل ذلك تفاهمات من فصائل اليسار في الجنوب في العام 1975.
"وقد جسَّد الحزب الاشتراكي اليمني إيمانه بالوحدة بتخليه عن السلطة في الجنوب من أجل انجاز وحدة اليمن" ص 47
كتب مجموعة من الكتاب والمثقفين والباحثين اليمنيين والعرب بعض الموضوعات التي تتناول منجز الصيَّاد البحثي والأدبي ، ومنها قراءات وعروض لكتبه المختلفة منها: (السلطة والمعارضة في اليمن المعاصر)، و(اليسار اليمني ظالم أم مظلوم) ، ورواياته الثلاث (اليمن وفصول الجحيم ) , و(آخر القرامطة) و( درويش صنعاء) وغيرها من الكتب والبحوث عن المرأة اليمنية وتحديات العصر واليونسكو – رؤية القرن الحادي والعشرين ، إلى جانب شهادات مختلفة عن مسيرته المهنية والثقافية دوَّنها، في الكتاب، أصدقاء وزملاء له من اليمن والوطن العربي.
المقال خاص بموقع المهرية نت