آخر الأخبار
عجلة الأيام الخشنة!!
كثيرٌ من الأماكن الحميمية صارت مع الوقت مشغلاً حيوياً في استرجاعاتي للذكريات الجميلة التي نحِّنُ إليها، ومنها شارع هائل بصنعاء بامتداداته وتفرعاته بوصفه الحالة الأكثر تمثيلاً لخارطة اليمنيين بتنوعهم الثقافي والاجتماعي والجغرافي.
ذات وقت قريب كتبت عن علاقتي بهذا الشارع التي تمتد لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وتحديداً منذ جِئت المدينة طالباً في السنة النهائية في المرحلة الثانوية العام 1985م، وسكنت عند قريب لي (ابن خالتي) في مسكن يقع بين "الدائري" و"هائل"، وكان الأخير نقطة حيويّة من نقاط تحرّكاتي وتجوالاتي.
وحينما صرت طالباً جامعياً كانت مقاهي الشارع، ومقايل الأصدقاء والأقارب، ولاحقاً مقر منظمة الحزب في المنطقة الغربية هي الأماكن القريبة من القلب.
في العام 1993م، سكنت فيه، حين بدأت بتكوين أسرتي الصغيرة في الشارع المتفرّع إلى "القبة الخضراء".
وحينما غادرت المسكن إلى آخر في حي قريب (حي عَصر الأسفل) لم تنقطع علاقتي بالشارع، إذ صار لاتحاد الأُدباء مقرٌ دائمٌ في أطرافه الشمالية (حيِّ الرقاص)، وكان حضوري للاتحاد ضرورياً بحكُم عملي فيه، تماماً كعملي في صحيفة "التجمع"، التي صارت هي الأخرى، بعد سنوات، مع منتدى "الجاوي" ومكتب الأمانة العامة لحزب "التجمع الوحدوي اليمني"، تمارس أعمالها من شقة في بُرج تجاري في بداية الشارع من جهة شارع "الزبيري".
في شارع "هائل" أصدقائي الذين أشاركهم، من سنوات طويلة، في معظم عصاري الأيام، وقليلاً من الليل لعب الورق (البطة) في مقاهيه؛ في الشارع أيضاً يسكن الكثير من أصدقائي الحميمين، وهو في مناسبات كثيرة وِجهة من وجهات التسوّق المرغوب للعائلة.
علاقة وجدانية طويلة ومتشعّبة تربطني بهذا الشارع، الذي يمثل خلاصة تعايش اليمنيين، حتي إنّي شبّهته -ذات مرّة- بالمعدة الهاضمة، التي تصهر تباينات اليمنيين الساكنين فيه، ولهذه المِيزة صار الشارع بأحيائه وحواريه المتعددة واحداً من الأماكن المرغوبة في السكن عند أكثرية الكادر الوظيفي، الذي انتقل من عدن ومدن جنوب اليمن إلى صنعاء بعد الوحدة، بحُكم انتقال وظائفهم إلى العاصمة.
تشكَّل الشارع تجارياً منذ بداية نشوئه، فكان - ولم يزل- واجهة مثلى للتسوّق الشعبي، بسبب وجود مئات المحلات التجارية التي تعرض الملابس والكماليات وأدوات الزينة والأدوات المنزلية بأسعار يراها الكثيرون تنافسية، قياساً بأسعار ذات البضائع في المولات الكبيرة، ومحلات الشوارع التجارية الحديثة، في "حدة" و"الأصبحي" و"بيت بوس"، وتتفرّع منه أسواق هامشية لبيع الخضار والفواكه والقات."
هذا الشارع أحاول إعادة اكتشافه من جديد ، ليس في زحمة التسوق في المناسبات ، ولا في ذروة التعالق المروري في النهارات المتجهمة ، وانما بواسطة المساءات الخريفية الهادئة، لأن فاصل الوقت بين فصلين مناخيين في المدينة شديدة التقلب يمنحني الكثير الفرص لاختبار بعضاً من المشاعر التي لم تزل متوهجة و لم تنطفئ ، حتى بعد الذي أحدثته عجلات الأيام ليس بمرورها على ظهورنا التي بدأت تتقوس فقط، وانما بمرورها على بعض من الذكريات التي نحاول استعادتها.
الأماكن والمواضع الكثيرة في هذا الشارع تذكرني بالأصدقاء، الذين رحل أو غاب معظمهم. تذكرني بهم حتى وإن تبدلت معالمها وتغير النشاط فيها . (مطعم الطيَّار) الذي كان فنائه الأمامي عبارة هن حوش واسع تتغطى أرضيته بالكرِّي (أحجار صغيرة خشنة)، كان ملتقى مسائي للعديد من أهل المنطقة والرفاق، الذين يتجمعون في فنائه ، ولا تخلوا أحاديثهم الكثيرة من السياسة حين كانت البلاد تخوض تحدياً وجودياً في الوحدة، قبل أن تتحول على أيدي مغامري الحكم ولصوص السلطة إلى جزر مفككة تتكئ على إرثها المناطقي الفج . هذا المكان تحول إلى عمارة حجرية بيضاء من دورين على تقاطع أهم الجولات في الشارع التي تتقاطع مع شارع عشرين، تحتل دورها السفلي محلات لبيع الأحذية والملابس؛ حين أمر على رصيفها اليوم تقفز إلى ذاكرتي تلك المساءات التي كانت مترعة بالأمل والرفقة الرائعة.
قبل أن تصل إلى جولة تقاطع هائل بشارع عشرين كان يجب عليك الدخول إلى أحد الشوارع الضيقة شرق الشارع ، وبعد أمتار قليلة تجد علي يسارك (فيلة) قديمة مبنية بطراز السبعينات الحجري، بشرفة اسمنتية منخفضة ، عرفت في السنوات الأربع الأولي من عمر الوحدة بمقر الغربية.
كان هذا المكان من أشهر مقرات الأحزاب في غرب المدينة ، فكثافة هائل ومحيطها السكاني ، ونزوع التحزب الواضح في أوساط القاطنين فيه من الطلاب والعمال والموظفين ، وانتمائهم للاشتراكي اليمني منحته هذه الصفة. وبالنسبة لي كنت أجد في هذا المقر ملاذاً رائعاً بمعية الرفاق حين كان حلمنا الأيديولوجي يطاول السماء. هذا المكان تحول إلى استراحة شعبية وكافيه، بعد أن تم تجريف الحياة السياسية وتعطيلها وضرب حواملها المدنية.
كان لا يذكر شارع هائل إلاَّ وتذكر معه (مكتبة الهدهد) ، التي كانت تقع بالقرب من سوق القات؛ مالكها صديقي واستاذي في كلية التجارة الدكتور داؤود عثمان ، وكان يديرها الصديق محمد صائل. مكتبة تأسست في محل صغير، وجمعت في نشاطها بين بيع الكتب والصحف والمجلات والقرطاسية، وكانت بالنسبة لي ولغيري محطة مهمة للتوقف أثناء مرورنا بالشارع، وإن كان ليس للشراء فهو للسؤال عما يحتفظ به بن صائل لنا من الأصدقاء من كتب وحاجيات ، فقد كانت عنواناً بارزاً للجميع . بقيت صامدة إلى 2008 تقريباً بعد أن انحصر نشاطها في القرطاسية ، قبل أن تباع لشخص آخر حولها إلى محل لخياطة وبيع العباءات النسوية السوداء.
بمقابل محطة الوقود بجوار فندق البانوراما ، كان هناك مقهى شعبي يمتلكه علي سعيد الصلوي، وسمح لبعض رواده بلعب الورق على واحدة من طاولاته العتيقة ، وكان معظمهم قادمين من مدينة عدن بعد الوحدة ، وخلال سنوات قليلة حولوا المكان إلى عنوان مهم للمرح، وتحولت الطاولة إلى مجتمع يمني مصغر به من كل الجغرافيا اليمنية.
بعد جرعتين سعريتين وتدهور العمل في المقهى في أوقات ما قبل طاولة البطة وبعدها ، باع علي سعيد الصلوى مقهاه لوسيط جشع والذي باعه بدوره لصراف، فحوله المُلاَّك الجُدد ومعه محل بيع العسل الى محل صرافه معروف يزدحم في رواقه يومياً مئات المودعين والساحبين والمحولين والمرسلين من أموال ، عوضاً عن مزدحمين فقراء كانوا يمضون محلقين حول طاولة متهالكة يجلس عليها رجال عدنيون مرحون يبثون البهجة في الأرجاء.
إنها عجلة الأيام الخشنة التي دهست كل شيء جميل في حياتنا بما فيها الذكريات ، التي صنعها هذا الشارع وغيره في مدينة بدأت تفقد ملامحها الحميمية التي كانت تمدنا بالبهجة ذات وقت.
المقال خاص بموقع المهرية نت