آخر الأخبار

عن صنعاء والعراق وقصائد الجيبلاني

مدينة صنعاء القديمة - أرشيفية

مدينة صنعاء القديمة - أرشيفية

المهرية نت - فارس غازي - رأي اليوم
الأحد, 12 يوليو, 2020 - 02:25 صباحاً

كانت صنعاء سنة 2000م تضج بآلاف العراقيين وعلى رأسهم نخبة من المثقفين والكتاب والأكاديميين ، وقتها صارت اليمن ملاذاً حقيقياً وحميمياً لهذه النخبة ، كان مقيل (مجلس ، صالون) الدكتور عبد العزيز المقالح يجمع أهم مثقفي اليمن والعرب ، وكانت صنعاء المدينة الجميلة تعيش أجمل سنوات مجدها الثقافي ، صحيفة الثقافية التي تصدر من تعز ، وملحق الثورة الذي يصدر من صنعاء ، وعشرات المؤسسات الثقافية والأدبية التي تتنافس على اجتذاب الأدباء والمثقفين اليمنيين والعرب وعلى رأسها مؤسسة العفيف الثقافية التي تواجه السفارة الفرنسية بشارع مجاهد في حي حدة المتطور، حيث يدير النشاط الثقافي فيها شاب وسيم وأنيق ومبدع لبق يجيد فن التقديم ويعرف تفاصيل المشهد الثقافي اليمني والعربي.

 

أول أمسية حضرتها كانت عن التصوف وكان المحاضر هو الدكتور عمر عبد العزيز اليمني الذي يعيش حضوراً قوياً في الشارقة ، في تلك الأمسية الثلاثائية تعرفت على المبدع الشاب علوان الجيلاني ، عند المغرب غادرنا المؤسسة وعزمني على وجبة عشاء سخية في مطعم الشيباني ، حين غادرنا المطعم وكان يفترض أن نفترق سألني أين تسكن ؟ قلت له جوار جولة سبأ.

 

صرخ مبتهجا وهو يحتضنني : أنت جاري

ركبنا الباص الصغير من حدة إلى التحرير ، كان يفترض أن نركب مباشرة الباص المتجه إلى جولة سبأ ،لكن الجيلاني راح يحدثني عن ميزات شرب الشاي في شارع المطاعم ، شارع لا يتجاوز طوله المئة متر تصطف على جانبيه المطاعم والمقاهي ويزدحم بالمرتادين  ، شربنا شاياً بالحليب هناك عرفني الجيلاني على الشاعر محمد القعود والناقد عبدالله علوان وصادق الهبوب ، الشاي كان مميزاً، شاي بالحليب يسمونه الشاي العدني نسبة إلى مدينة عدن التي يعشقها اليمنيون دائماً .

 

حين وصلنا إلى جولة سبأ اكشفت أن ما  يفصل بيتي عن بيت الجيلاني لا يزيد عن مئة وخمسين متراً تقريباً ، وهكذا بدأنا رحلة صداقة استثنائية

 

يوم رحيل جان دمون بكينا كثيراً ، قرأنا أشعاره وتوجعنا حتى قال الوجع يكفي .

 

كان الجيلاني طيباً،  وسيماً وأنيقاً ، كريماً وعاشقاً طوال الوقت ، يحفظ قصائد السياب ويبكي لأجله ، يبكي لأن السياب لم يكن له حظ مع النساء ، بعد أن عرفت الجيلاني عن قرب واختلطت به سرت مخزناً لأسراره ، بعد المغرب يكون قد أنهى دوامه في مؤسسة العفيف الثقافية حيث يمنع تناول القات ، جوار جولة سبأ مطعم شهير اسمه مطعم الشلال ، يشتري من المطعم وجبة عشاء لي وله (لحم صغار أو دقة مع الخبز الملوح ) ، ومن جوار المطعم يشتري قاتاً ثم يدلف إليّ ، نتعشى ونبدأ مضغ القات (يسمونه التخزين)، القات مكيف يطلق الأسرار ، نبدأ بقراءة قصائدة ، كان وقتها يباهي بدواوينه وكان الأدباء يحفظون قصائده ، يقرأ الجيلاني بزهو وفناء

 يَا وَطأةَ ما ألقَى – وأَنا

كَالقمرِ الغَارِبِ فِي عينيكْ ..

تِتِقِصَّفُ خَاصِرَتي تعباً ..!

ما بالُ شِتائي يَتشَظَّى ..؟

غُرَفي تتكسَّرُ ؟

في كُلِّ وريدٍ مائدةُ لصَلاةٍ الحبْ ..

أكوانٌ مِنْ أَقمارٍونجومٍ ومَرايَا

وسلالمُ تَصعدُ في ملكوتِ الضوء ..

أَيّتُها الأنثى :إنِّي غَسّلتُ مِنَ الخوفِ عُيونِي

وعلى صَدركِ هَلهلتُ مَواقِيتَ الشِّعرِ ..!!

أتيتُ إلى نَفسِي بَعْدَ غِيابٍ طَالَ و وطِالْ ..!

  مَاذَا أَكتُبُ يَا سَيِّدتيِ ..؟

ثَمَّةَ شِرْيَانٌ مِن عَسلٍ مَا بَينَ فُؤادِي وَلِسَاني

وَعلى شَفتيكِ الدَّافِئَتينِ ..تَهَرَّدَ عُصْفورٌ صَيْفيٌ

اْلتَمَعتْ لُؤْلُؤَةُ الآمالِ

اْرْتَسَمتْ فِي مَاءِ الحَضْرَةِ جنَّتَنَا ..!

قالَ الحبُّ :تَبارَكتُمْ ..

الوَردَةُ تَفْتَحُ سُرَّتُها

عِطراً وَمَنادِيلَ زُرقاً

وَبَهَاءً يَتَّكِئُ عَليهِ الحُبُّ

خُذُوا مَا شِئتُمْ يَحْجُبُكمْ

عَن عَيْنِ الحَاسِدِ سِتْرُ اللهْ

 

المقطع السابق من قصيدته الجميلة (الوردة تفتح سرتها) ، في تلك الليالي  عرفت أن هذا الشاعر لا يمكن أن يعيش دون حب أبداً ،ثمة امرأة يجب أن تكون في حياته دائماً ،( ل) التي عرفها حين كان وعيه يتفتح على الوجود ، (ص) زميلته في الثانوية ومفجرة جنونه الشعري قبل نهاية الثمانينيات ، (ن) السمراء الجميلة التي أحبها أول أيام الجامعة وصارت زوجته فيما بعد ، ( د) اللبنانية التي كانت شغف أيامه في فرنسا سنة 1992م / (ن) التي وقع في حبها وكتبها لها (الوردة تفتح سرتها ) و (كتاب الجنة ) ، (ع ) الغواية العجيبة ، (أ) المجنونة ، (ب)المرأة الخبيرة اللعوب التي كادت تودي بحياته .

 

منذ تعرف على (أ) كنت شاهداً على كل شيء ، وعرفت (ب) و (ف) كما عرفت (ب) الثانية، وكنت شاهداً على الليلة الليلاء حين حاكمه العفيف بسبب الشاعرة (ن) وهي غير النونين السابقين .

 

كان الجيلاني العاشق للنساء يتوهج حباً ،تعجبني طريقة  عيشه في كل قصة من قصص حبه ، يتلبس الأمر بتفاصيله اليومية ويسرده بعذوبة وحرارة وجنون.

 

لكنه كان إلى جانب ذلك قارئاً ومتابعاً لا يتوقف ، أجمل ما فيه كان شغفه بالعراقيين ، هو أول من حدثني عن مسرح المقيل الذي أسسه العراقي كريم جثير في صنعاء ، كما حدثني عن قصة الحب المووؤدة التي جمعت شاعراً عراقياً كبيراً بشاعرة يمنية من عائلة كبيرة ، وتحدث كثيراً عن صبري مسلم ووجدان الصائغ وعبد الاله الصائغ وشاكر خصباك وحاتم الصكر وعبد الرضا علي وفضل خلف جبر وعمار صبيح وأمل جبوري وإبراهيم السامرائي وطارق نجم ومحمد رضا مباركي وعلاء المعاضيدي وعلي حداد وارادة الجبوري، وعباس السلامي  كان يقول لي إن أجمل أيام مقيل المقالح حين كان يحضرها علي جعفر العلاق ، الرجل الراقي الذي يتحدث بطريقة مدهشة تجعلك لا تريده أن يتوقف ، كنا غرباء نتشرد في جهات العالم الأربع وكان يسعدني أن أجد مبدعاً وإنساناً بهذا الجمال ، يحيطك بالحب أكثر مما تتوقع .

 

ذلك كان استطراداً لكن النقطة الأساس في حياة الجيلاني تجربته الأدبية ونساءه اللائي أحبهن وأحببنه ، إحداهن عرفتها عن قرب كانت تدير صحيفة وهي من أسرة تتربع على الهرم الاجتماعي في اليمن كتب لها الكثير من الشعر ، وعاش معها سنوات من الحب الملتهب ثم انتهى الأمر بمأساة نتيجة وشاية حاقدة .

 

أحد التيارات المتشددة في اليمن كفر الجيلاني بسبب ديوانه الوردة تفتح سرتها ، ووجد نفسه ذات يوم مع الشاعر محمد حسين هيثم في أحد مساجد صنعاء أثناء صلاة الجمعة وسط المصلين وخطيب الجامع يكفرهما بالإسم ، في المساء كان يقول لي هذا آخر عهدي بصلاة الجمعة في صنعاء .

 

 كان الجيلاني يعيش زخماً إبداعياً ويعشق الحياة الثقافية في صنعاء ، طوال الوقت يتنقل بين المقايل الثقافية (جلسات القات)، والمنتديات الأدبية ويقدم الفعاليات ويحتفي بزملائه ، وأينما توجه هناك نساء يحففن به ، وكان يحارب بسبب ذلك ويعاني من بعض المكائد ، لكنه بطبيعته كان يتجاوز المآزق ويتغلب على المشاكل .

 

غير بعيد من مكان سكني اكتشفت الكاتب العراقي جاسم كريم حبيب ، كان قد أصدر كتاباً عن المضامين السايكلوجية في شعر المقالح  ، لكنه تعرض للتبخيس من مجموعة أدباء عراقيين لا أريد تسميتهم ، وأصابته حالة نفسية جراء ذلك ، وساعدني الجيلاني كثيراً من أجل احتواء أزمة حبيب .

 

قال لي حبيب سوف اكتب كتاباً عن سيكلوجيا العاشق علوان الجيلاني ، لكنه انتقل من جوارنا وافتقدناه ، ثم عرفنا أنه تعرض لمضايقات من الأمن السياسي ولم ندر ما هو الخطر الذي يمكن أن يمثله كاتب أعزل وفقير ومشرد وغريب . وقال لي الجيلاني أنا الذي سوف أكتب كتاباً عن جاسم كريم حبيب .

 

تلاحقت السنوات وكان عام 2004م عام صنعاء عاصمىة الثقافة العربية ، وصارصديقي الجيلاني منشغلاً بالفعاليات الثقافية طوال الوقت ، وقد زرته ظهر يوم في المركز الثقافي كان يلبس بدلة أنيقة لونها بني فاتح وربطة عنق ذهبية كان منهمكاً في التخطيط لمهرجان من المهرجانات الكثيرة التي أقيمت ذلك العام وقد أحاطت به ست من جميلات اليمن ، نظرت إليه وقبل أن أعانقه انفجرت ضاحكاً وفهم هو المغزى .


تعليقات
square-white المزيد في ثقافة وفنون