آخر الأخبار
لماذا انحدرت أخلاقنا ؟
قال لي بانفعال شديد ماذا جرى لأخلاق اليمنيين ؟
قلت له أنها روافع الحرب التافهة ياصاحبي.. لكن قلي ماذا جرى ؟
- هل تعرف رأفت المصري صاحب محل المستلزمات الجلدية القريب؟
- نعم الرجل الأنيق الفكه أعرفه .. ماذا به؟
- وجدته صباحاً بالقرب من مبنى رئاسة الوزراء في طريقه لمتابعة موضوع تجنيسه مع اطفاله ، فهو صار يمنياً بحكم اقامته الطويلة وزواجه من يمنية منذ ربع قرن !! أو لينتزع توجيهاً عاجلاً بقبول أبنائه في المدارس الحكومية ، بعد أن رفضت قبولهم منذ بداية العام بحجة أنهم أجانب !!
- ألم أقل لك أن أخلاق اليمنيين تدمرت ؟
قلت له نعم .. القائمون على التربية والتعليم اليوم لا يعرفون أو يتناسون أن مصر أرسلت إلى اليمن عشرات الآلاف من المعلمين منذ أربعينيات القرن الماضي، وساهمت في نقل اليمن من القرون الوسطى إلى زمنها الفعلي بعيد ثورة سبتمبر المجيدة، من خلال مساهمتها في بناء المدارس الحديثة في المدن الرئيسة الثلاث (صنعاء وتعز والحديدة) ونقلت مئات الأطنان من الكتب المدرسية ومستلزمات الدراسة من مخازن وزارة المعارف في القاهرة إلى اليمن، طبعاً هذا غير تضحيات الجيش المصري الكبيرة في اليمن من أجل انجاح ثورة سبتمبر وتثبيت النظام الجمهوري ، ومع ذلك استكثر القائمون على أمر الحكم والادارة تسمية بعض الشوارع والمعالم بأسماء شهداء الجيش المصري الكبار الذين قتلوا غدراً أو غيلة أو في قلب المعارك؟
قال لي رأفت حينما زرته لاحقاً إلى محله أنه يتابع موضوع تجنيسه منذ اكثر من عشر سنوات ، وأنه ذهب إلى مصلحة الهجرة والجوازات للحصول على جوازات لأبنائه بعد تشكيل حكومة التقاسم التي فرضتها المبادرة الخليجية في 2011 فقال له أحد المعنيين في المصلحة أن أولادك من موالد عهد النظام السابق، وأنه لن يمنح أي منهم جوزاً، وسيمنح فقط المولود القادم في العهد الجديد.. قال أن الأمر لم يكن مزحة من ذلك المختص وإنما قولاً صريحاً قاطعاً وإلى اليوم وأنا أتابع لأثبت لهم أنني مواطن يمني أقلها بحكم التطبع ومنها المشارعة والمراجعة (*) ، ولو كنت في الولايات المتحدة كنت قد حصلت علي خمس جنسيات متعاقبة ، فخمس من السنوات فن الاقامة المتصلة فيها تمنحك جنسية، والمولود على أرضها يتحصل على الجنسية تلقائياً .
يكثر اليوم الحديث عند تقييم الدور المصري في اليمن من قبل المحسوبين على سلطة الأمر الواقع الإمامية بأنه كان احتلالاً مصرياً، وأن ثورة سبتمبر ليست أكثر من انقلاب دعمه عبد الناصر ولم تكن ثورة.
وهذا أمر مجاف للحقيقة فقد كانت ثورة مكتملة الأركان انطلاقاً من سعيها لتغيير المفاهيم وخطواتها الأولى نحو الانعتاق على قاعدة أهداف تحسست قبل كل شيء الطريق إلى المساوة بين اليمنيين، وبناء دولة بمضامين تقدّمية بعيداً عن الاستبداد الوراثي وخرافاته أو حكم اليمنيين بالكيد الديني.
(2)
طُلب من قبل أشهر مع مجموعة من المثقفين اليمنيين أن نكتب عن حضور مصر في وعي المثقفين اليمنيين والعرب لمجلة الأهرام العربي، فوجدت نفسي مسترسلاً في أدق التفاصيل ، أسرد ما علق بذاكرتي من هذا الحضور البهي الذي بدأ باكرا ، وتحديداً من الصورة المشوَّشة والبعيدة للجنازة الرمزية وصلاة الغائب التي أقامها أبناء قريتي للزعيم جمال عبد الناصر في وادي القرية، بعد موته بأيام، ولم أكن حينها غير طفلٍ على عتبة الخامسة من العمر، وبالكاد الآن استعيد الصورة من حزن الناس الكبير، والذين كانوا في وضع من فقدوا فيه والدهم العظيم.؟
ومن صحن معدني مذَّهّب الحواف، ومنقوشة بوسطه المدوَّر صورة زعيم القومية العربية أبو خالد الجانبية، جاء به والدي من عدن، وبقي في دارنا القروي حتى سنوات قليلة، دون أن ينال منه الصدأ.
من أناشيد العبور التي بقيت لأسابيع تبثها الإذاعات ، وتمتدح الجيش الذي أعاد للعرب القليل من كرامتهم ، وهل من صفحات مجلة المصوِّر وآخر ساعة وروز اليوسف ، التي كان يحتفظ بها ، في شنطة حديدية أسفل الدار القديم ، قريب لي يحب عبد الناصر أكثر من أي شيء في الدنيا، وبها صور الجنود الذين دمروا خط بارليف ورفعوا العلم ، وحرروا سيناء في مطلع خريف ملتهب ، كسروا فيه أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
ومن كتاب القراءة المصورة الذي أرسله والدي، من مدينة تعز، في حقيبة يدوية (أبو سُستة) مع مجموعة أقلام ودفاتر وزمزمية، وبقيت صورة التلميذ المصري أبو طربوش حاضرة ، وأشكال التعريفات بالأشياء ( النحل والقصب والجاموس والترعة والحمار) المأخوذة من بيئة الفلاح المصري تحفر بذهني عميقاً ، وتنقلني إلى أجواء القرية المصرية، التي لم تكن قد تشكلت ملامحها عندي، قبل ظهور التليفزيون وقبل دخولي إلى السينما بسنوات طويلة.
وأيضاً من أحاديث أصغر أعمامي - الذي هرَب على والدته وهو في الخامسة عشرة للالتحاق بالحرس الوطني ،عقب قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م- عن سفره الباكر إلى القاهرة لعلاج يده من إصابة لحقت به وهو في إحدى التلال المحيطة بصنعاء وإلى جواره جنود مصريون، وعن دورة الصاعقة التي أخذها في أحد المعسكرات القريبة من مدينة الإسماعيلية، والذي كان الكثير من جنوده يدافعون عن ثورة اليمن وجمهوريتها الوليدة بكل بسالة، والأهم من أول مدرِّس مصري تلقيت على يديه دروس القراءة الحديثة والحساب في مدرسة الثورة الابتدائية بمدينة تعز منتصف السبعينيات ببدلته السفاري الدائمة وجسده الثخين ولكنته البحراوية المحببة.
__________________
(*) من الطرائف التي تروى عن أحد السياسيين اليمنيين أنه عرَّف الانسان في اليمن بأنه ( كائن مُشارع مراجع) وليس كم تذهب التعريفات بالعموم أن الانسان حيوان ناطق.
**المقال خاص بالمهرية نت**