آخر الأخبار
تعليقان عن صنعاء الغالية وخرافة الولاية !!
(1) صنعاء الغالية
الأيام العشر التي قضاها ابني الكبير برفقة أسرته الصغيرة في صنعاء خلال إجازة عيد الأضحى، كانت كفيلة بتجديد دورة الحياة داخل العائلة وتنشيطها، بعيداً المشابهة الملولة التي صنعتها سنوات البارود والدم.. صنعاء بالنسبة له هي مدينة الروح التي ولد فيها ، قبل ثمان وعشرين سنة ،وفيها نشأ وترعرع وتعلم ، وصعوده إليها من مدينة تعز حيث يعمل هي ، في كل مرة، مناسبة مهمة لمعانقة ذكرياته الكثيرة والكبيرة ، والأهم التمامه مع أسرته الصغيرة بالعائلة ، حتى وإن كان ثمن ذلك الكثير من مكابدات السفر ومشاقه، والتي امتدت ، في سفرته الأخيرة ، لثلاثة وثلاثين ساعة- من مغادرته لمسكنه في مدينة تعز في الرابعة من فجر الأربعاء ووصوله إلى منزل العائلة في الواحدة من ظهر الخميس- بسبب الحصار المفروض على مدينة تعز، وتقطع وازدحام الخطوط البدائية واضطراره لعملية التفافية طويلة عبر محافظة لحج ليصل إلى صنعاء.
بعد أربعة أيام من وجوده بيننا قال لي إن صنعاء تغيرت، و لم تعد تلك التي يُحبُّها، فقد صارت بعيونه ووجدانه غريبة، وتقريباً بذات الشعور الذي يتملكنا حيالها . حميميتها، كما قال، تبددت بسبب شتات أصدقائه، وحلول قيم ومظاهر بائسة محل قيم تسامحية كان الواحد منا الإحساس بها في مدينة اليمنيين التي تعمَّرت وتوسعت بعرقهم وكدَّهم قبل أحلامهم؛ الفوضى تتمدد وتستطيل في المدينة، وتتآكل فيها قيم المدينية بحدودها الدنيا ، لصالح قيم البداوة الطافحة والريف الأجدب الذي استباحها.
قال أن المعيشة في صنعاء مرتفعة جداً قياساً بنظيرتها في تعز – المدينة والمحافظة التي تعصف بها الفوضى والإنفلات والتضخم مثل بقية المدن والمناطق التي خرجت من تحت سيطرة الحوثيين- حتى مع هبوط سعر صرف العملات الأجنبية فيها ، وكان أقرب تمثيل لديه عن ذلك هو سعر علبة الحليب الصغيرة التي يشتريها لطفله؛ فقد دفع فيها ثلاثة الأف ومائتين ريال، بعد أن كان يشتريها قبل ستة أشهر من ذات الصيدلية بألفين وثمانمائة ريال، حينما كان سعر صرف الدولار الواحد ستمائة ريال، أما اليوم فسعر الصرف هو خمسمائة وخمسين ريالاً للدولار. سعر العلبة نفسها في تعز خمسة الآف وخمسمائة ريال عن سعر صرف مقداره 1120 ريال للدولار أي أن ثمنها في صنعاء خمسة دولارات ونصف ، ويدفع في وفي تعز أربعة دولارات ونصف فقط.
قال أنا لا أفهم هذه المعادلة المغلوطة، فكيف يهبط سعر الصرف وترتفع الأسعار في نفس الوقت.. في عدن وتعز حضرموت ولحج وأبين وبقية المناطق يهبط سعر الصرف فتهبط معه أسعار السلع، حتى وإن كان الهبوط ليس بحجم الارتفاعات عموماً لكنه يهبط، إلا في مدينة مثل صنعاء وبقية المحافظات التي تحت سيطرة الجماعة.. مثال ثان أورده لسعر الجالون البنزين- سعة عشرون لتراً- ففي صنعاء سعره 25 دولاراً بسعر الصرف السائد، وسعره في تعز يساوي 18دولاراً وفي عدن 15 دولاراً ؛ أما عن أسعار الأدوية فحدث ولا حرج ، فأسعارها في صنعاء تزاد نسبتها بما يوازي 30%، والقياس أيضاً على بقية أسعار السلع والخدمات المرتبطة بمعيش المواطنين.
وحينما طلب مني تعليلاً لهذه الحالة، ربطت المسألة بالجبايات الكبيرة التي تقوم بها سلطة الحوثيين في المناطق التي تسيطر عليها ، فتنعكس تلقائياً على أسعار السلع والخدمات، فالجمارك المرتفعة والضرائب التصاعدية والإتاوات المستديمة والرسوم الكثيرة المتنوعة التي تجتبى من التجار وأصحاب المحلات التجارية، يعاد فرضها على المستهلك فتنعكس بهذه الإرتفاعات غير المنطقية، وفي النهاية لا يجد المستهلك جهة رسمية يحتمي بها، فقد صار مسيرو هذه الجهات سلاطين للشره والجشع والفساد، فما دام التاجر سيرضخ لابتزازاتهم الدائمة وجشعهم الذي لا يحد ، فليس لديهم مانعاً من تحميل المواطن هذه الأعباء بموافقتهم ورضاهم.
(2) خرافة الولاية بين نخبوية الفضاء وشعبوية الأرض
لن أضيف إلى ما قيل في مسألة الولاية التي يريد بها الحوثيون والأسر الهاشمية اللصيقة بحكمهم في كل عام تسويق وهم أحقيتهم في حكم اليمنيين من منطلق إلهي محض، ولكني سأعرض هنا ما لصق بذهني من هذه المناسبة الإشكالية في شيئين اثنين :
الأول ،وهو تلك الموجة العاتية والعظيمة من الكتابات و المنشورات والتغريدات التي اجتاحت الفضاء الأزرق التي سعت لتفكك وهم خرافة الولاية، واستحضار الكثير من الكتابات الخارجة من بطون كتب التاريخ العربي الإسلامي ومن نتاجات المفكرين و الكتاب المعاصرين ،التي تدعم هذا التوجه ،وتعرّي الزيف والجهل الذي يتمترس خلفه دعاة طالبي السلطة من قبل جماعة تدعي انتسابها لبيت النبوءة دون بقية البشر.
والثاني ، وهو صورة الحشود الكبيرة التي وصلت للميادين العامة في العاصمة والمدن التي يسيطر عليها الانقلابيون الحوثيون للاحتفال بهذه المناسبة ، والتي تقول وبكلام قليل إن عملية التجهيل التي مارستها سلطات الحكم في كثير المناطق تؤتي ثمارها الطازجة في كل مناسبة خرافية تدعوا إليها .
التحشيد الذي قامت به الجماعة كسلطة حاكمة لمثل هكذا مناسبة وبكثير من وسائل الترغيب والترهيب، كما تفعل أي سلطة عالمثالثية مستبِّدة، لا ينفي حقيقة ساطعة وهي أن الوعي المتدني لكثير من سكان هذه المناطق ، إلى جانب التعصب المذهبي للكثير من الأسر الوازنة وذات الثقل الاجتماعي والروحي- التي وجدت في سنوات حكم الجماعة فرصة لتأكيد حضورها - قد ساهمت في إنتاج هذه الصورة المكبَّرة، التي تستخدمها الجماعة في تسويق نفسها في الداخل والخارج ،لتقول للجميع أن مشروعها غير منبوذ مجتمعياً، و يقوم على قاعدة جماهيرية كبيرة، وبالتالي من حقها أن تكون ليس جزءا من سلطة تشاركية مع بقية الأطراف ،وإنما كصاحبة حق في تسيير السلطة كيفما أرادت وبالحقَّين معاً (الزمني والروحي).