آخر الأخبار
يوم الأغنيَّة ووجدان اليمنيين ( تجربة في الكتابة) !!
قبل ثلاث سنوات كتبت مادة عن الشاعر سعيد الشيباني واخترت لها عنوان (من هنا مرَّ الغناء دافئاً)، حاولت فيها تقريب الصورة عن تجربة الشاعر الإبداعية في مسعى توثيقي لتجربته الرائدة في كتابة النص الغنائي منذ أواخر خمسينات القرن الماضي حينما كان طالباً في جامعة القاهرة ، وتعاونه مع المطربين محمد مرشد ناجي، وفرسان خليفة، وأحمد بن أحمد قاسم، وإن نصوصه المغناة الرائجة كانت هي أحد المفاعيل المؤسسة للون غنائي جديد لم يزل بعيداً عن مغامرات القراءات الكاشفة بخصوصيته اللهجوية وموضوعاته الجمالية والاجتماعية كما سنتبين.
ومثل أي شاعر غنائي كبير شكل سعيد الشيباني ثنائياً إبداعياً مع الفنان "فرسان خليفة" الذي غنى له مجموعة مهمة من النصوص مثل "ريح الشروق" ، "حنت رعود على حرض وصرواح"، "طير الحمام"، "حامل الجرة"، "إب الغروب ومشرقه المشنة" ، "جبل صبر"، "يارشا ياباردية" ، وغيرها " لكنه أيضا أنجز مع المرشدي وأحمد قاسم أغان خالدة لم تمحها تقلبات الزمن، فمن منا لم يسمع "حقول البن" ،و "من العدين يا لله" ، و" يا نجم يا سامر" و" يا طير يا ردمادي"، "وصنعاء الكروم" وخلَّد نصوصه فنانون عرب أمثال فائزة أحمد وفهد بلان ورويدا عدنان.
وفي ذات الفترة تقريباً تنادى مجموعة من المثقفين والمهتمين بالموسيقى والغناء، لتكريم مجموعة من الشعراء و المطربين، فطُلب مني الكتابة عن الفضول وأيوب ، ولاحقاً عن سلطان الصريمي وعبد الباسط عبسي ، وفي الأولى كتبت عن (الثنائية من خصوصية الجغرافيا واللغة إلى الاحتكار المحبَّب.. الفضول وأيوب نموذجاً) منطلقاً من أن أيوب طارش العبسي لحَّن وغنَّى من قصائد العديد من شعراء الأغنية في اليمن، وإن الذين كتبوا نصوصاً غنائية بالملحون والفصيح وبكل اللهجات تقريباً، ولم يكونوا متيقنين أنها ستُغنى في الأصل وبصوت مطرب مثل أيوب طارش، وبالمقابل لحَّن وغنّى العديد من فناني اليمن الكثير من نصوص عبدالله عبد الوهاب نعمان "الفضول"، وهذه النصوص، ومثل بقية نصوصه الغنائية" قامت على القوة والجزالة والأهم انسيابيتها إن خضعت للتلحين، وإن اكتشف الملحنون عبقرية كلماتها لتصير أغان خالدة.. مع ذلك ارتبط الاثنان - أيوب والفضول" بثنائية - سيمائية غير مشوهة" صعُبَ تفكيكها، و(أشاعا) معاً لوناً غنائياً جديداً، صار مع الوقت إضافة نوعية للتنوع الغنائي في الجغرافيا اليمنية، عُرف باللون التعزي بخصوصيته "الحُجَريَّة".
وفي الثانية كتبت عن ثنائية الشاعر والفنان وقلت أنه لا يذكر اسم سلطان الصريمي كشاعر غنائي كبير إلاَّ ويذكر معه الفنان المختلف عبد الباسط عبسي، الذي شكل معه ثنائياً فريداً ابتدأ من أغنية "واعمتي منو شقول لمسعود" ، التي ظهرت مُغنَّاة أول مرة في مدينة الحديدة أوائل سبعينيات القرن الماضي" 1972" ، فصارت وقتها إنجيلاً للنساء في القرى اللواتي عانين من قسوة فراق الأزواج بسبب الهجرة والإغتراب، التي كانت حينها واحدة من تعيينات المعضلة الاجتماعية مع متلازمة الفقر، الذي يقود الى الهجرة القاسية، والتي قد تكون سبباً في اختفاء الأزواج ، الذي يتحول مع الوقت الى شقاء مضاعف في حياة الزوجات الشابات ، فلا يمتلكن من جرائها سوى الشكوى المريرة التي تختصرها هذه الاغنية ، التي تتوجه بها الزوجة للعمَّة.
وطوال تاريخ التعاون الفني الطويل بينهما انتج الاثنان عشرات الأغاني التي كتبت وغنت للطبيعة والإنسان بصوت عبد الباسط الدافئ والمعبِّر في آن ، ومن أكثرها انتشاراً أغنية "يا ورود نيسان يا شذى حبي" وأغنية "يا خضبان وردك جماله ثاني " وأغنية " باكر ذري " وأغنية "يا نور أحلامي " وأغنية "عروق الورد مستني رعودك" وأغنية "متى وراعيه شمطر وأغنية "حنين الأرض يا سلمى" وأغنية " يا هاجسي " وغيرها و غيرها الكثير.
وكنت قبلها قد كتبت عن الشاعر محمد عبد الباري الفتيح الذي يعتبر أحد الشعراء الذين اكتشفوا صوت باسط حينما كان طالباً في مدينة الحديدة ، وغنى له أغنيته المشهورة و(قمري غرَّد).
أصدر الباحث المجتهد الدكتور يحيى قاسم سهل في 2020 كتاباً مهماً للغاية عنوانه "الأصوات الغنائية النسوية في اليمن 1950–2000" ومتكئاً على مادته التوثيقية المهمة كتبت مادة عن (في المجابهات الباكرة لتعنيف المجتمع لغناء النساء)
منطلقاً من التشابهات الكثيرة في ظروف الإعاقة لمطربات يمنيات في المحاولات الأولى لهن في تقديم أنفسهن كأصوات غنائية، ولولا إصرارهن القوي على مواصلة السير في الطريق الشاق والوعر لما صمد ووصل إلينا إرثهن الطربي.
العيب والمحرَّم كانا المتلازمة العائقة لهن من قبل الأسرة والعائلة والمجتمع، الذين تنتمي إليهم هذه المطربات، لكنهن خضن غمار المواجهة الصلبة، في الشمال والجنوب، مع جدار العزلة والمحافظة والتحريم الذي أحاطهن. خضن هذه المواجهة إما عُزّل تمامًا، فدفعن ثمن ذلك تنكيلًا وقهرًا من الأسر والأهل، أو أنهن وجدن مساندة محدودة من الآباء، فتعرضوا بدورهم للمقاطعة من محيطهم العائلي، لكنهم وفروا الكثير من الحماية لبناتهم، لإيمانهم القوي بدور الفن في "أنسنة" الطبائع الخشنة في محيطهم المغلق.
كانت تلك هي خلاصة قراءة في تجارب، وسِيَر أصوات غنائية نسوية يمنية خلال خمسين عامًا في شمال اليمن وجنوبه، احتواها كتاب الباحث يحيى قاسم سهل، الصادر مؤخرًا عن دار الصادق بصنعاء، وحمل ذات العنوان: "الأصوات الغنائية النسوية في اليمن 1950–2000"، الذي تكمن أهميته في طابعه التوثيقي؛ وإن صدوره في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ اليمن واليمنيين هو بمثابة الرد البليغ على تجريفات الهوية الثقافية والحضارية، التي يزاولها عصبويو المذهب والمنطقة والقرية.
توالت الكتابات في هذا المنحى حتى صارت، مع سابقاتها، تشكل عندي مادة متماسكة لكتاب مستقل عن مطربي وشعراء الأغنية اليمنية وألوان الغناء في القرن العشرين، عمادها:
قراءة في سيرة وتجربة المثقف الملتزم محمد مرشد ناجي، وقراءة في التجربة الشعرية الغنائية للشاعر غزير السلى عبدالله سلام ناجي، وعن الشاعر الذي صهر اليمن بأصوات المطربين أحمد الجابري كتبت أيضاً مادة طويلة، وكتبت في السياق ذاته عن المطربين الشعراء والشعراء الملحنين متتبعاً انجاز المطربين أبوبكر سالم، ومحمد سعد عبدالله، وعلي السمة ، واسكندر ثابت، والشعراء الملحنين أحمد فضل القمندان، وعبدالله هادي سبيت، والمحضار، ولطفي جعفر أمان والفضول. عن الفنان أمل كعدل كتبت قبل عام من الآن ما يشبه الأمل كاستدراك ليوم الأغنية اليمنية.. بعد قراءات مكثفة وتتبع مُجهِد كتبت عن التأسيسات الباكرة للون الغنائي التعزي بخصوصيته الحُجرية، وتوصلت إلى أن شعراء مثل سعيد الشيباني وعبدالله سلام ناجي وعبده عثمان محمد وأحمد الجابري، ومطربين أمثال المرشدي وأحمد قاسم وفرسان خليفة واسكندر ثابت، هم من وضعوا المدماك القوي لهذا اللون الغنائي بأبنيته اللهجوية، وموضوعاته الجمالية والاجتماعية.
تجربتي الشخصية مع اثنين من فناني الشارع الملهمين نقلتها كحكايتين قصيرتين عن هذا الفن الذي ضمَّخ شوارع صنعاء بالكثير من البهجة قبل تجريف الفضاء العام، ونقلت أيضاً حكايتي السماعية لمجموعة من الأغاني الرائجة لمعظم الفنانين اليمنيين فصارت اليمن مجتمعة بألوانها الغنائية (في شريحة صغيرة على باص أنيق في شارع مزدحم).
عن القاص مطرباً كتبت عن أغنية (ياغصن لابس قميص أخضر مشجَّر وطاس) التي كتب كلماتها شاعر الحمينية المعروف القاضي أحمد بن عبدالرحمن بن يحيى الآنسي قبل مئتين وخمسين عامًا، وكان القاص المبدع محمد مثني يغنيها ضمن محفوظاته الأثيرة في مقايل اتحاد الأدباء قبل ثلاثين عاماً، بعديد الألحان التي غُنيت بها.
في تجاربي التسجيلية المرئية تحدثت عن الشاعر مطهر الإرياني والمطرب علي بن علي الآنسي في قصيدة خطر غصن القناة في برنامج للجزيرة الوثائقية، وعن الفنان الأنسي لقناة يمن شباب، وقبلهما سجلت مع المخرج الراحل محسن يسلم اليماني عن الشاعر سعيد الشيباني والمطربين الذين ارتبط بهم.
هذه تجربة كتابة داخل المدونة الطربية في اليمن، وأعيد سردها بمناسبة يوم الأغنية اليمنية التي أعادت صياغة وجدان اليمنيين جميعاً، حتى وإن حاولت بلدوزرات السياسة والتعصب تجريفها كقيمة وذكرى.
المقال خاص بالمهرية نت