آخر الأخبار

خراب الحرب في أرواح اليمنيين (نماذج من الانفلات القيمي)!!

السبت, 23 أبريل, 2022

الطعنات العميقة التي أحدثتها سنوات الحرب في أرواح اليمنيين كثيرة ومهولة، استتبعتها موجة عاتية من الانفلات الاخلاقي والقيمي، الذي يتجلى في سلوك الناس  اليومي في الشارع والبيت والمكتب والفضاء العام، وحتى في الأعمال التي تصنف في جانب الخدمة الانسانية وعلى رأسها الخدمات الطبية والصحية والتعليم.

فمنذ سقطت الدولة نهائياً في سبتمبر 2021م بيد الميليشيات تخلت الأخيرة عن مسئوليتها المجتمعية كسلطة حاكمة، وجعلت من المؤسسات العامة مورداً للجباية  لتقوية سلطتها ونفوذها بالحرب، وكان اكثر القطاعات تضرراً من هذا التوجه هو القطاع الصحي الحكومي؛  فقبل سنوات الحرب كانت الخدمات المقدمة في هذا القطاع بائسة بكل تأكيد، لكنها صارت اليوم منعدمة تماماً إلاّ للقادرين على الدفع، بعد أن قام متنفذو السلطة الجديدة بتخصيصها وتعيين إدارات تنفيذية مرتبطة بهم.

في طول البلاد وعرضها لا تجد اليوم أي نوع من الخدمة الصحية في المرافق العمومية، وإن وجدت فهي مسلَّعة ورديئة وعديمة النفع، لهذا ليس من بديل أمام طالبي الخدمة من المرضى غير المستشفيات والمستوصفات الخاصة المزيَّنة والعيادات التي صارت تنتشر مثل فطر في جميع الأحياء، ويديرها موظفون عموميون لا يؤدون واجباتهم الانسانية كما ينبغي في المرافق العامة، ويفضلون العمل في المشافي والمستوصفات والعيادات الخاصة التي يدفع فيها المرضى مبالغ خيالية على خدمات بائسة أيضاً - تشخيص خاطئ يقود إلى معالجات خاطئة في كل الأحوال.

يتناولك  من باب المشفى( المسلخ) دافع كرسي المرضى فيوصلك إلى قسم الطوارئ وهناك لا يستقبلون الحالة إلاًّ بدفع رسوم المعاينة الباهظة والتأمين مهما كان وضع الشخص المُسعَفْ، وأول شيء يفعله الطبيب المناوب  في قسم الطوارئ تحرير قائمة طويلة بالتحاليل والأشعة التي يحتاجها المريض ولا يحتاجها ، ثم تبدأ رحلة المعالجة  للمريض بتشخيصات خاطئة عموماً من قبل أشخاص منزوعي القيَم، همهم الأول والأخير سلب المرضى كل ما يملكون؛ الأمر ذاته يحدث أيضاً في العيادات الخاصة التي يلجا إليها المرضى بعد أن تسد أمامهم طرق الاستشفاء في عيادات المشافي العامة، فيكون الطبيب الجشع على تفاهمات مع صاحب المختبر ومالك الصيدلية لنهب المريض وليس علاجه.

قبل يومين حكى لي صديق موثوق أن جار لهم في عمر الشباب ذهب إلى احدى المستشفيات الخاصة لعلاج التهاب طارئ شديد في العين وبعد فحوصات طويلة وبمبالغ باهظة قرروا له علاجاً ، وبعد اسبوع واحد فقد البصر تماماً في العين المصابة، قال الصديق أن عين جاره سالت من محجرها، وحين حاولت عائلته مقاضاة المستشفى قال لهم مديرها المتنفذ أن المريض اشترى علاجاً رخيصاً غير الذي موجود في صيدليته، وهنا تنتفي مسئولية المستشفى في إماتة عينه!!
 ما ينطبق على الخدمات الصحية ينطبق أيضاً على التعليم الذي صار مسلَّعاً هو الآخر؛ و كنت قد عرضت ذات وقت ليس بالبعيد هذه المشكلة هنا وقلت أن أغلب المدارس الخاصة  التي صار يلجأ إليها أولياء الأمور بسبب ازدحام المدارس العمومية وتدني التعليم فيها ، ظناً منهم أن المدارس الخاصة تقدم خدمة أجود، ولا يعلمون أن أغلب  هذه المدارس تستقدم معلمين من الخرجين والخريجات الجدد الذين لا يمتلكون من الخبرة شيئاً، ويوظفونهم بمبالغ زهيدة جداً. في هذه المدارس يمضي العام الدراسي في حصص العاب وحفلات تخرج وبازارات خيرية ورحلات ترفيه، وقليل جداً في الحصص الدرسية الصفية النافعة.  

 والنتيجة لذلك هي جيش من الأميين يتخرجون سنوياً من هذه المدارس، التي يفتتحها أناس جشعون من طبقة الحكم الجديدة ، والذين يرون في  افتتاح هذه الدكاكين التي يسمونها بهتانا مدارس تؤدي رسائل تربوية وتعليمية مورداً اضافياً لتنمية ثرواتهم على حساب أسر الطلاب، الذي التجأوا إلى هذه المدارس بحثاً عن فرص تعليم حقيقية  لأبنائهم ، وفي سبيل ذلك ينفقون كل مدخراتهم من أجل هذه الخدمة، ليكتشفوا في نهاية المطاف أنهم وقعوا ضحية أناس لا ضمائر لهم، يعملون على غشهم و تجهيل أبنائهم عوضاً عن تعليمهم.  

الرشوة التي تفشت قبل سنوات الحرب وكانت جزءً من ديمومة الحياة، كانت تؤخذ بقليل من الحياة واللطف ، لكنها صارت اليوم تنتزع انتزاعاً وبقوة وتسلط الإدارة. مثلاً تفرض البلدية على  أحدهم مهندساً لمعاينة موقع بناء من أجل استصدار رخصة قانونية لإضافة دور جديد على دور مرخص قانوناً منذ سنوات، ولأن صاحب المسكن لم يدفع المبلغ الذي طلبه المهندس من أجل التوقيع واكتفى بنقده مبلغاً متوسطاً، ليتفاجأ في اليوم الثاني بتقرير مطوَّل من المهندس يعدد فيه الكثير من مخالفات البناء في الدور الأول القائم منذ سنوات وتستوجب إزالة المبنى؛ و حينما تفاهم  صاحب المسكن مع مديرالمهندس المباشر بالطريقة المألوفة صار التقرير في سلة القمامة ، ورخصة الدور الثاني موقعة ومختومة . قال من روى القصة من الزملاء أن المهندس الذي رفع التقرير هو ذاته من سمح لمالك آخر في ذات الشارع باقتطاع أكثر من متر مربع من الشارع الفرعي، فصار المبني كانه اقيم في منتصف الشارع  المخطط.

أراد أحد الأصدقاء توثيق مبنى تاريخي  في هيئة الأراضي بموجب وثيقة ملكية (بصيرة)  تحدد الموضع المكان ومساحته بالضبط، غير أن المهندس المستجد وقليل الخبرة الذي ذهب لمعاينة الموقع واسقاط المخطط لم يضبط عمله فرفع المخطط بزيادة في المساحة، مما جعل المسئول يتهم صاحب الحق بالتزوير والغش وهدد بمصادرة المبنى لصالح الأملاك، ولم تنته المشكلة الا بعد اشهر بنزول مهندسين جدد لمعاينة الموضع واسقاط المخطط من جديد، وبعد أن خسر الصديق مبالغ خيالية لتثبيت حق للعائلة تتوارثه من عشرات السنين.. الغريب في الأمر أن المهندس الغشيم لم يتوار خجلاً بل تصدر المشهد وصار من المديرين، لأنه معيَّن من شخص نافذ ومنذ ذات المنطقة التي تنتمي إليها (اولغارشية) الحكم الجديدة.

 عشرات القصص والحالات التي تشير إلى انفلات القيم وكان للحرب أثرها البليغ في تعظيمها، وتحويلها إلى سلوك عام غير مذموم ،في مجتمع بنية الوعي فيه هشة، فتصير في سلوك الصغار والكبار على حدٍ سواء نموذجاً للاحتذاء، لهذا من واجب المبادرات المجتمعية الكبرى العمل على إيقاف الحرب ،لربما استطاع المجتمع تلافي هذا الانحدار المريع في وعي وأخلاق أبنائه.
 

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023