آخر الأخبار
ملف الأزمة الأوكرانية
تابع الرئيس السابق أوباما ضم الرئيس بوتين لشبه جزيرة القرم من مكتبه البيضاوي وهو يصفه بالرجل الذي يحمل مطرقة ويبحث عن رأس حديد ليضربه، لكنه لاحقا أدرك أن رأس الحديد ينبغي أن تحددها واشنطن في الزمان والمكان المناسبين وتلك مهمة أخفقت فيها إدارته
اعتمدت سياسة واشنطن بعد الحرب الباردة على التعامل بكثير من الصبر الاستراتيجي مع ما يطلق عليه الأمريكيون "متلازمة التاريخ الروسية" وذلك توصيف للقلق الروسي من تطويق المعسكر الغربي لها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وجنوح ممالكه للميل الغربي وتداعي النفوذ الروسي ثقافة وسياسة وحضارة عليه.
حين تسلمت إدارة ترمب البيت الأبيض كان من بين الملفات الأساسية التي جرى فيها نقاش بين فريق الانتقال وإدارة أوباما، ملف أوكرانيا، من حيث ضرورة المضي قدما وتعزيز الحضور الأمريكي في دول الطوق الروسي لا سيما في البحر الأسود، الذي أوصت صراحة بحضور عسكري واضح فيه.
وبرغم الصخب الذي يلف الحدود الأوكرانية الروسية والمعركة على نقاط النزاع الحدودية، إلا أن الصخب هو مرآة عاكسة لميدان معركة أخرى ليس بأي حال عنوانها رغبة روسية في غزو أوكرانيا، وإنما مهمة روسية عاجلة للوصول للمياه الدافئة وتأمين الممر بين البحرين الأسود والأبيض، فلماذا البحر الأسود.
أدرك فريق إدارة أوباما أن فريق ترمب تعامل باستخفاف مع توصية تغذية الحضور الأمريكي في البحر الأسود لاحتواء "المتلازمة التاريخية الروسية". حتى أن أوباما تحدث مباشرة لترمب عن هذا الأمر خلال جلستهما المغلقة التي استغرقت وقتا وجيزا يوم تسليم السلطة.
غني عن الذكر أن ترمب لم يلق بالا بالأمر ولم يكن ضمن دائرة اهتمام إدارته، ولهذا فإن بايدن وفور وصوله للبيت الأبيض، وضع هذه المهمة المتأخرة على قائمة أولوياته، لتنطلق في الشهر الثاني من إدارته مناورات عسكرية أمريكية بالبحر الأسود.
ترى موسكو أن منطقة البحر الأسود حيوية لاستراتيجيتها الجغرافية الاقتصادية، لإبراز القوة والنفوذ امتدادا للبحر المتوسط ، وحماية روابطها الاقتصادية والتجارية مع الأسواق الأوروبية الرئيسية، وجعل جنوب أوروبا أكثر اعتمادا على النفط والغاز الروسي.
في العقدين اللذين أعقبا الحرب الباردة، انضمت بلغاريا ورومانيا إلى النيتو وأعلنت جورجيا وأوكرانيا عن نيتهما في الانضمام للحلف، وتلك طامة كبرى لروسيا تهدد التوازن الإقليمي لصالح النيتو.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي احتفظت روسيا بالسيطرة على الجزء الأكبر من أسطول البحر الأسود التابع له عبر سلسلة من الاتفاقيات مع أوكرانيا قسمت الأسطول بين الدول وسمحت لروسيا باستئجار ميناء سيفاستوبول الأوكراني كقاعدة للأسطول.
وتعتمد كل من روسيا ودول آسيا الوسطى اعتمادا كبيرا على ميناء نوفوروسيسك الروسي على البحر الأسود لتصدير الحبوب والنفط بالسفن وهذا يوفر لموسكو نفوذا مفيدا على آسيا الوسطى غير الساحلية.
لكن موسكو واجهت منافسة من تركيا، التي شرعت في استراتيجية لتنمية دول الاتحاد السوفيتي السابق، ولا سيما الدول الإسلامية وتلك التي تتحدث اللغة التركية، بما في ذلك أوكرانيا حيث كانت أنقرة مدافعة عن حقوق تتار القرم.
وهنا تحاول موسكو أن يكون لها نفوذا استراتيجيا على أنقرة من خلال منحها حوافز كمنظومة الدفاع الصاروخية ومرور خطوط أنابيب النفط والغاز عبرها، بما في ذلك خط أنابيب ترك ستريم الذي تم إطلاقه حديثا ، وهو ذاته الذي يوفر لموسكو طرق تصدير جديدة تتجاوز أوكرانيا.
وبالنسبة لموسكو فإن أنقرة هي الخانق الاستراتيجي الأول لوصولها إلى البحر المتوسط عبر البحر الأسود، فحال حصول أي نزاع يمكن لتركيا التي تفرض قيودا أصلا على عبور القطع الحربية لميناء البسفور، يمكن لها أن تقوض هذا الوصول بالنسبة لروسيا.
ولأن موسكو تضع أمنها والقدرة على إظهار القوة فوق جميع الاعتبارات الأخرى، فإنها اتجهت إلى التدخل العسكري ضد جورجيا وأوكرانيا واستخدام الحرب المباشرة لمنع أي دولة سوفيتية سابقة أخرى خارج دول البلطيق، التي انضمت إلى النيتو في عام 2004، من الانضمام رسميا إليه.
ومع تصعيد إدارة بايدن سياسة الحضور القوي في البحر الأسود أدركت موسكو أن التهديدات الأمريكية أكثر من مجرد مخاطر إقليمية. يعني الوجود العسكري الأمريكي قرب البحر الأسود أن جزءا كبيرا من روسيا الأوروبية يمكن أن يكون ضمن مدى الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى البرية والبحرية.
ولحسن حظ بايدن فإنه جنى ثمار ما زرعه أوباما في سنواته الأخيرة حين دعم بقوة نشر نظام الدفاع الصاروخي لحلف النيتو في رومانيا والذي بدأ العمل في منتصف 2016 واعتبرته موسكو تعزيزا للبنية التحتية الاستراتيجية الأمريكية في جوار روسيا يقوض الأمن الروسي.
وأمام هذا التهديد فإن موسكو تدرك أكثر من أي وقت مضى أن ضم شبه جزيرة القرم لم يكن رادعا لواشنطن والنيتو بل كان مجرد وسيلة تسهل الوصول للمياه الدافئة. وأن هذا الوصول بات مهددا بالوجود الأمريكي المتنامي.
هذا الوجود الأمريكي يهدد علاقات روسيا المتوسعة في مجال الطاقة في البلقان، وخاصة في بلغاريا ومقدونيا الشمالية وصربيا، والكرملين يستخدم الطاقة كسلاح جيوسياسي لتقويض نفوذ النيتو والاتحاد الأوروبي في تلك المنطقة.
فخطوط الأنابيب الروسية تولد إيرادات وتعمل كأدوات جيوسياسية في هجوم موسكو والدفاع عن مصالحها في منطقة البحر الأسود الأوسع وجنوب أوروبا، لكن السلاح الروسي الجيوسياسي يفقد قوته مع الوقت.
فمع تزايد المنافسة في سوق الغاز من الغاز الطبيعي المسال وغاز خط الأنابيب الأذربيجاني يجري تقويض النفوذ الاقتصادي لروسيا ويبدو استخدام سلاح الغاز مع أوروبا وهو يفقد مع الوقت أهميته الاستراتيجية.
ووفق ما تقدم يظهر أن روسيا غير راغبة في "غزو أوكرانيا" بقدر ما هي راغبة في العودة لاستخدام مطرقة بوتين والدق بها على رأس حديد وإن بقضم منطقة أخرى من أوكرانيا، وهو الأمر الذي يأتي بنتائجه السلبية.
فربما تكون موسكو قد منعت جورجيا وأوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، لكنها بذلك حوّلت كلا البلدين إلى أعداء دائمين، وسيتطلب وجودهم على الحدود الروسية وعلاقاتهم المتنامية مع النيتو من روسيا الاحتفاظ بأصول عسكرية كبيرة.
ثم إن التدخل الروسي في منطقة البحر الأسود يؤدي لانحسار الدعم الشعبي والنخبوي لموسكو في العديد من البلدان الأوراسية، وهو الأمر الذي يدفع شيئا فشيئا كما تابعنا في كازاخستان مؤخرا.
ومن جانب آخر وبرغم أن التقارب الروسي التركي هو أبرز تحول في الديناميكيات الإقليمية للبحر الأسود على مدى العقد الماضي. إلا أن موسكو لا تثق بها وهو ما ظهر بوضوح مؤخرا.
فتركيا دعمت عسكريا أذربيجان في حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020. وتواصل دعم وحدة أراضي أوكرانيا ، بما في ذلك شبه جزيرة القرم ، وتبيع الأسلحة إلى أوكرانيا بما في ذلك الطائرات المسيرة التي تعتبر سلاحا استراتيجيا في الحروب الحدودية.
ووفق ما تقدم فإن عنوان المعركة الحالية ليس غزوا روسيا، بل بحث روسي عن مخرج من أزمة انحسار الخيارات أمام التطويق الغربي الجيوسياسي لها مع تراجع نفوذها الاقتصادي والاستراتيجي في البحر الأسود.
وزمان المعركة ليس خلال أيام أو أشهر بل عقود من التدافع في هذه المنطقة طالما أن روسيا بوتين واقعة في أزمة متلازمة التاريخ وأنها لا تتوقف عن التفكير استراتيجيا في الحضور والنفوذ وتنظر لأمن روسيا على أنه متصل مباشرة بإظهار القوة.
ومكان المعركة ليس الحدود الأوكرانية وإنما المياه الدافئة في البحر الأسود حيث باب روسيا الاستراتيجي نحو المياه الأوسع في البحر المتوسط، وحيث يمكنها أن تبحر اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وتلك منطقة تعج بالنفوذ الغربي وصخب المناورات الأمريكية.
* مجموعة تغريدات من حساب الكاتب في تويتر