آخر الأخبار
ياما تحت السواهي دواهي
هذا من الأمثال الشعبية الشهيرة مصري المنشأ عربي الاستخدام ويقابله في السقطرية مثلين الأول قولهم: (ينابت دال أصر) ومعناه أنك قد ترى شخصا ضعيفا أو طفلا لا تتوقع منه أن يقوم بأمر عظيم كالذي قام به مما يثير اعجابك في حين لا عجب ففي خلق العجب.
والمثل الثاني قولهم: (شلل مح با صفوره) ومعنى (شلل) بالشين الجانبية أي: خفيف ونحيف غير ثخين والعكس هو الصحيح في الدلالة ومعنى (مح) أي: مخ الساق ويدل على القوة و(اصفروه) طائر صغير يتواجد في سقطرى من فصيلة الدوري العصفوريات.
وهناك مثل آخر قد يكون قريب الدلالة من الأمثلة السابقة وهو قولهم: (تناذر بتشابئك) ومعناه: احترز من الاستهانة والتصغير للغير ولا تقل كنت أحسبه لا يقوى على هذا الفعل وغير ذلك.
مما دفعني لاستدعاء هذه الأمثلة حالة عجب عشتها في إحدى رحلاتي خارج سقطرى أنا واحد زملائي الفضلاء حيث استأجرنا باصا من نوع نوها ضمن بضعة رجال في طريقنا إلى المحافظة الشرقية في اليمن
أتينا أنا وزميلي متأخرين فوجدنا المقاعد الأمامية محجوزة على الرغم من حجزنا المبكر مع السائق الباص وهذا لم يمكنا من الجلوس مع بعض فقد نأى بي الحظ إلى المقاعد الخلفية مؤثرا زميلي بالمقعد الأمامي، تدمرت في البداية قليلا وعللت الأمر بتعثر الحظ لكني اكتشفت مؤخرا أنه من أجمل المواقع أمانا وجوارا
كان بجواري رجل ممزق الثياب مبتذل الحال عليه أثار الارهاق من السفر وقبل أن يعترف لي أنه لم يدغدغ النوم عينيه منذ ليلتين رأيت ذلك على وجهه وفضلا عن الارهاق الظاهر على جسمه هناك أثار للعوز تبدو على ثيابه ففيها بعض التمزقات وبعضا من أثار الكدح المتواصل.
وعندما طلب السائق أجرة السيارة استبقى لنفسه شيئا من الأجرة مدعيا أن ما تبقى لديه لا يكفيه زاد الطريق وفور حديثه ذلك عرفت من لكنته أنه تهامي وفيما بعد عرفت أن اسمه محمد التهامي وهذا ما جاد به علي من سيرته الذاتية.
بداية رافقني الشعور بالضيق من هذا الرفيق وما أن تحرك الباص قليلا مبارحا مدينة المكلا متجها إلى الشرق بدأ التهامي يغرف من ذاكرته سيلا دفاقا عطرا من أشعار البردوني والزبيري التي تعبر عن واقعنا المزرى قمت بتدوينها في صفحتي في الفيس بوك ولم أعجب من حفظه بل من اختياراته العذبة وعلمه بالمعاني ولكن مع ذلك ما زلت متحفظا عن التحاور معه لأسباب فرضها الواقع المعاش مقنعا نفسي أن ما يتلوه من الشعر هو من أجل كسب ودي.
لم يبتعد الباص كثيرا حتى استوقفنا السائق عند مطعم في منطقة بويش جرا خلل في احدى اطاراته فتركنا وعاد أدراجه ثانية إلى المكلا تمكنا خلال فترة غيابه من التعارف أكثر وتباذلنا أطراف الحديث واستأثر زميلي بالحديث معي التهامي فاندهش منه وأثار إعجابه عبقرية الرجل وذكائه وسعة حفظة وقال لي فيما بعد والله خجلت من نفسي لو طال بي الحديث معه قليلا وفضلت الانسحاب ولم أسأله عن السبب حينها لأن أشعر بما يشعر به.
عادت السيارة إلينا وعدنا إلى مقاعدنا وكان لي حديث شيق مع التهامي طفنا خلاله مع صفحات من دواوين أعلام الشعراء العرب القدماء والمحدثين مع شيء من قصصهم وأخبارهم استنفذ الرجل كل قراءاتي المتواضعة وزادني من بحر اطلاعه العميق الشيء الكثير والكثير وذكرني ما حبسته ذاكرتي في سجن النسيان فاكتشفت أن الدراسات مهما طالت والشهادات مهما كبرت لن تمنحك سوى الفتات وأن الشغف العلمي أجود أنواع التعليم وهذا ما جعل زميلي يخجل على نفسه من مجالسة التهامي فالرجل لم يتحصل على الثانوية وليس موظفا وليس ثريا حتى يتهيأ له بعض أسباب الاطلاع وما هو إلا ميكانيكي سيارات أحيانا أو سائق قاطرات
التهامي موسوعة نادرة من العلوم والثقافة والفنون والأخلاق والمرح وعزة النفس هذا ما لمسته من خلال هذه الرفقة القصيرة ومن خلال ما حكاه لي بشأن ما حصل بينه وأخيه وهو ما دفع به إلى هذا الارهاق النفسي والجسمي منذ أيام قائلا اتصل لي أخي وقال أريد منك ترافقني إلى سيئون لنشتري سيارة فوافقت واتفقت معه على أن نذهب من هناك بسيارته إلى منفذ شحن فوافق وعندما اشترينا السيارة ووصلنا إلى المكلا اتخذ قررا أنه يعود إلى بلاده ناقضا للاتفاق وفعلا تركني من غير مؤنة ولا مال وذهب ولذلك عدت لحالي داعيا الله أن ينتقم لي منه.
حاولت التخفيف من حدة دعواته على أخيه وحاولت اقناعه ببعض النصوص من القرآن والسنة والكلمات لكن قلبه ينزف ألما على الأخوة التي تحولت إلى غدر ومكر غير مكترث بأي أسباب أخرى وهكذا هو اليمني عامة عزيز النفس يأبى الكسر يواصل طريقه في الحياة ساعيا إلى أهدافه مهما كانت الصعاب وكثيرا ما يقال لا تضع رأس برأس اليمني.
ربما يبدو محمد التهامي فريد من نوعه ولكن من أمثاله في العلم والثقافة والمهارة والعزة والإبداع في اليمن كثير وكثير قست عليهم الحياة وأخفاهم الإهمال وطواهم النسيان وجار عليهم الحاكم وتمكن الغازي من العبث بهم ولكن اليمن قاسية تأبى الانكسار ولادة تأبى التهميش.
المقال خاص بموقع المهرية نت