آخر الأخبار
كيف كانت تبني الإمامة علاقتها السياسية مع الخارج ؟
يقال أن السياسة الخارجية هي مجموعة من الإجراءات تتبعها دولة في تعاملها مع الدول الأخرى، ومصممة لتحقيق أهداف وطنية، وهذا النزوع استخدمته سلطة الإماميين (المملة المتوكلية) في بناء علاقات مع دول عديدة ، من أجل تحقيق مصالح خاصة لطبقة الحكم وليس لانتفاعات وطنية عمومية ، كما سنعرض في السطور التالية لبعض من الاتفاقات والمعاهدات السياسية التي أبرمتها سلطتا يحيى حميد الدين ونجله أحمد خلال الفترة من العام 1926م إلى العام 1958م مع مجموعة من الدول(*)
مجمل هذه الاتفاقيات تحيل إلى طبيعة توجهات المملكة المتوكلية في بناء علاقتها الخارجية مع الدول من واقع مصالحها كسلطة تسخِّر كل الامكانيات لإدامة حكمها ، فهي لم توظف مثل هذه الاتفاقات في دمج البلاد في العالم وإخراج اليمنيين من العزلة والتخلف، فالأخر حسب فلسفة الحكم شر مستطير لا ينبغي الوثوق فيه، ولا الركون عليه.
وتحتل العلاقة مع بريطانيا الجزء الأكبر في مساحة التناول، لأنها تبحث في تفاصيل التنازع الطويل ابتدأ من انحياز اليمن إلى تركيا في الحرب العالمية الأولى، بحجة أنها ملتزمة معها باتفاقية صلح دعان الموقع بين الطرفين في العام 1911م مروراً بعدم اعتراف اليمن بالحدود التي وقعتها بريطانيا من تركيا في 1914 ، ثم قيام بريطانيا باحتلال السواحل الغربية لليمن وتسليمها للادريسي بعد انتهاء الحرب الكونية الأولى و استعادة قوات الإمام للضالع و ما ترتب عليها من ضرب الطيران البريطاني لقرى ومدن يمنية في العام 1928م، وصولا إلى معاهدة العام 1934م التي بموجبها اعترفت بريطانيا باستقلال اليمن استقلالاً كاملاً مطلقاً في جميع الأمور مهما كان نوعها، ويسود السلم والصداقة بين الفريقين المتعاهدين الساميين ، على أن تؤجل مسألة البت في قضية الحدود إلى أن تتم مفاوضات تجري بينهما قبل انتهاء مدة هذه المعاهدة ( التي كانت مدتها أربعين عاماً)؛ أعقب هذه المعاهدة جملة من التنسيقات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي ابتدأت من زيارة ولي العهد إلى عدن في العام 1946 م وكانت للتأثير في نشاط الأحرار اليمنيين الذين اتخذوا من المستعمرة الانجليزية (مدينة عدن) منطلقاً لأنشطتهم السياسية والإعلامية ضد نظام الإمامة ، ثم اتفاقية جديدة لدعم الإمام أحمد بعد اغتيال والده في 1948 ، وبعدها بعامين قامت مفاوضات طويلة وشاملة في لندن تناولت قضايا الحدود والتمثيل الدبلوماسي وتعويضات المتضررين من قصف الطيران البريطاني في 1928، وانتهت هذه المفاوضات بعد عام بتوقيع اتفاقية جديدة في العام 1951 أبرز بنودها عدم قيام الطرفان المتعاهدان بأي أعمال عدائية حيال بعضهما، ومثَّل ذلك اعترافاً إمامياً ببسط البريطانيين على المحميات مقابل ضمان إدامة حكمهم.
أقدم معاهدة وقعتها سلطة الإمام يحيى مع إيطاليا في العام 1926، والتي تضمنت مادتها الأولى اعتراف حكومة جلالة ملك ايطاليا باستقلال حكومة اليمن الكامل المطلق ، كأول دولة تفعل ذلك ، وأول دولة تقوم بعلاقات تجارية مع اليمن، وأول دولة تقوم بتدريب طيارين حربين يمنيين واهداء الحكومة طائرات عتيقة، وكان الهدف من بناء مثل هذه العلاقة للضغط على بريطانيا في سنوات الاحتقان التي سبقت انفجار الحرب الكونية الثانية.
يقول القاضي عبد الرحمن الإرياني في ( مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني – الجزء الأول) :
" شهدنا معاً الاستقبال الكبير الذي اُعد لمقدم والي أسمرة، المستعمرة الايطالية، وهو كفاليري يعقوب غاسباريني إلى صنعاء في زيارة رسمية دشن بها المعاهدة الودادية بين اليمن وإيطاليا . وقد خرجت صنعاء عن بكرة أبيها لاستقباله، لا احتفاء به ولكن للاستطلاع والتفرج على أول مسئول أجنبي يصل إلى اليمن. وقد وصل وأعضاء وفده يركبون الخيل والبغال اذ لم يكن يومئذ للسيارات وجود" ص79
علاقة حكومة الامام بالمملكة السعودية بقيت متوترة بسبب اتفاقية الحماية والدفاع التي أبرمها الملك عبد العزيز بن سعود مع حكام المخلاف السليماني من الأدارسة، والتي بموجبها قطع الطريق على صنعاء في استعادة مناطق المخلاف ، ولعبت حادثة قتل الحجاج اليمنيين في العام 1921 في منطقة تنومة ( عسير السراة) دورها الأبرز في تصعيد التوتر ، وبررت السعودية هذه المقتلة أن مسلحين بدو وهابيين ظنوا في الحجاج العُزَّل مقاتلين جاؤوا لإسناد ال عايض الثائرين على حكم الأدارسة ، حتى أن رأي وقرار الملك فيها صيغ بهذه الطريقة الاستعلائية الدميمة:
" إن الحجاج هم الذين طوحوا بأنفسهم في ساحة الحرب ومن المعلوم أن الله لم يأمرنا بأن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة"، ولم يقف الامام من هذه القضية وقضايا كثيرة أخرى تتصل بمسألة الأراضي المستقطعة موقفاً حازماً، ولهذا تنمرت السعودية على الإمام واستضعفته ولم تتوان في فرضت شروطها في اتفاقية الطائف في العام 1934 بعد أن استطاعت قواتها اجتياح تهامة، بعد حرب غير متكافئة ، لعبت الأسلحة البريطانية الحديثة والتجهيزات وجُبن الإمام وخوفه على ابنه سيف الاسلام عبدالله الدور الأكبر في حسمها.
أما العلاقة مع الاتحاد السوفيتي فقد كانت في نوفمبر من العام 1928، نصت مادة المعاهدة الأولى على اعتراف السوفييت بحكومة اليمن الكامل والمطلق، والثانية على تسهيل المبادلات التجارية. أما العلاقة مع جمهورية الصين الشعبية فقد أبرمتها حكومة الإمام بعد ثلاثين عاماً من اتفاقيتها مع السوفييت أي في العام 1958، وكان من ثمارها قرضاً ميَّسرا بسبعين مليون فرنك سويسري لتنفيذ طريق الحديدة صنعاء وانشاء مصنع الغزل والنسيج ، وغيرها من المشروعات.
علاقة اليمن بالولايات المتحدة الأمريكية بدأت في فبراير 1946 حينما وصلت إلى اليمن بعثة أمريكية في زيارة رسمية ، وفيها تم التوقيع على معاهدة اعتراف وصداقة متبادلة ، وفي يوليو 1947 وصل وفد يمني برئاسة سيف الاسلام عبدالله ابن الامام إلى أمريكا رداً على الزيارة وطالباً الانضمام إلى الأمم المتحدة. وفي سنة 1955 أبرمت إحدى الشركات الأمريكية عقداً مع حكومة الإمام يخول الشركة الحق في التنقيب والبحث عن البترول والمعادن في مساحة 40 ألف ميل، وقد نص العقد على تقسيم صافي الأرباح مناصفة بين الشركة والحكومة، ومدة العقد كان يمتد لثلاثين عاماً، ولكنه يصبح لاغياً
أما العلاقات مع مصر (الجمهورية العربية المتحدة) فيوثق لها كتاب ( أضواء على ثورة اليمن) ابتدأ من العام 1954، ناسفاً معظم تاريخ العلاقة بين حكومة الإمام والحقبة الملكية المصرية الاَّ ما يشير لبعض الكاتبات الودية التي انطوت على تعزيز الصداقة والإخاء . أما تاريخ العلاقة مع حكومة الثورة ابتدأت في يوليو 1954 حينما أرسلت وفداً إلى اليمن وأنجز هذا الوفد اتفاقا مع الحكومة اليمنية تعهدت فيه مصر بإرسال بعثة عسكرية لتدريب الجيش اليمني ومستشارين فنيين لمساعدتها في نهضتها؛ وفي سنة 1956 تم التوقيع في مدينة جدة على ميثاق أمن متبادل بين مصر والسعودية واليمن نصت مادته الأولى على حرص الدول المتعاقدة على دوام الأمن والسلام واستقرارها وعزمها على فض جميع منازعاتها الدولية بالطرق السلمية، وكان هذا الاتفاق رداً على تشكيل حلف بغداد، الموقع في العام 1955 بين ايران وتركيا والعراق و وباكستان وبريطانيا ومن ورائهم الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان تصميم انشائه الرئيس هو محاربة التمدد السوفيتي في الشرقين الأوسط والأدنى.
اتفاقية الاتحاد الفيدرالي العربي الذي وقعته حكومة اليمن مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) في العام 1958، هدف الأمام أحمد من ورائها تحييد مصر في صراعها مع حركة الأحرار اليمنيين وليس دفعاً بالعمل السياسي العربي إلى آفاق قومية جديدة، رغم أن هذه الاتفاقية كانت تمنح سلطة الإمام فرصة استثنائية في امتصاص نقمة الداخل، الذي كان يرى في شخص عبد الناصر ( رئيس الجمهورية العربية المتحدة) رمزاً قومياً ومنقذا حقيقياً ، غير أن ألاعيب الامام ومناوراته سرعان ما فضحت هدفه الحقيقي في الهروب إلى مثل هكذا اتفاق.
(*) ينظر كتاب ( أضواء على ثورة اليمن) الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة تأليف محمد صادق عقل وهيام أبو عافية / 1963.
المقال خاص بموقع المهرية نت