آخر الأخبار

جزيرة كبرت وليتها لم تكبر!

الجمعة, 17 مارس, 2023

يحن كثير من الناس إلى عاداته وتقاليده التي كان فيها الجار يتفقد أحوال جاره ويتعاون معه ويعلم بحاله ويحن إلى سائر عاداته التعاونية التي تنطلق من الأسرة نحو المجتمع كله وتشمل كل شيء وتحل كل خلاف بشكل ودي.

فالنزعات والخلافات على الأموال والممتلكات لا تعرف طريقها إلى المحاكم بل يقضى عليها في مهدها ويلزم كل طرف بما تم الاتفاق عليه ويلتزم العامة بما يقوله العقلاء وكبار القوم.
حين تجالس هؤلاء الكبار كثير ما تسمع من حكايات الماضي البعيد والقريب وتتردد في حكاياتهم عبارة كنا وكنا ويشجيك ويكاد أن يبكيك صوت التأوه الذي يطلقونه قبل بدء الحكاية يستدعون الماضي ويتشوقون لعودته في حين لا عودة وكأنهم ينظمون بيتا آخرا يناسبهم :( ليت الزمان يعود يوما فأخبره بما فعلت بنا الحضارة) خلافا لما قاله الشاعر : ليت الشباب يعود يوما    فأخبره بما فعل المشيب فهم على النقيض من أمل الشاعر قد لا يرغبون بعودة الشباب قدر رغبتهم في عودة حياتهم إلى بساطتها وودها وتعاونها...وقد يفضلون أن يبقوا كبارا على خلاف قيس المجنون الذي تمنى أنه وليلى لم يكبرا ولم تكبر البهم بل يفضلون أن تبقى عاداتهم وتقاليدهم ولو كبروا وزالوا.

تجدر هذا الحب للعادات والتقاليد حتى في دعواتهم التي حفظوها من آبائهم فقد كانوا في كل اجتماع دعائي أو ما يسمى (محر) الذي يتم قبل ذبح المواشي لا ينسون أن يقولوا ( تعرر عن ألله دسار ريهو) والمعنى احجز عنا يا رب ما وراء الماء ويقصدون بالماء البحر وعلى الرغم من أنهم لا يعرفون مما وراء الماء شيئا إلا أن من عاش منهم وأدرك ورأى وعرف فيما بعد ما جلبته عليهم حضارة ما وراء الماء كان أمر مذهل له ضرائبه حول حياتهم من البساطة إلى التعقيد.   وصل بهم  التخوف مما وراء الماء إلى أن حاربوا التعليم وقاوموه فقد فضلوا أن يتعلم ولدهم بضعا من السور وشيئا من الكتابة بواسطة المعلم الذي لا يملك سبورة سوى الجلود والأحجار وليس لديه أقلام غير أغصان شجرة مخصوصة تسمى(لقهم) أو بواسطة الفحم إذا تعسر إحضار تلك الأقلام ومن الصعب الحصول على المعلم في كل القرى بل لا يتواجد إلا في مناطق مخصوصة وربما هاجر الأهل جميعا إلى تلك المنطقة ليراقبوا ولدهم ويفرحون بنبوغه وسرعان ما يكتشف المعلم الأذكياء فيطلب بقاؤهم عنده حتى يتموا الحفظ والكتابة وإذا ما أتم الطفل الحفظ عمل له الأهل وليمة عظيمة لا تقل عن وليمة الأعراس بل ويطلقون عليها المسمى نفسه (ظيافة).

  عندما جاء التعليم النظامي منعوا أولادهم من الذهاب إلى المدارس إلا أن يغلبوا لذلك كانت الحكومة تطارد الأطفال وتجبر الناس على تسليم أبنائهم الذكور إلى مدارس البدو الرحل وربما لديهم من الأسباب الكثيرة لهذا المنع.

  سألت أحدهم عن سبب منعه أولاده من الالتحاق بالتعليم فقال إن الولد يخرج من المدرسة قليل العلم سيء الدين ضعيف الخلق وذكر لي قصصا كثيرة في هذا المجال منها أن أحدهم ذهب ولده المتفوق في منحة دراسية إلى روسيا وعندما عاد هاجم أهله ووصفهم بالتخلف والرجعية وتهجم على الصلاة والقرآن والدين يقول لهم ما هذا التخلف أو بلغته السقطرية (عاكن تكراببن والناس طلعت الفضاء) والمعنى ما زلتم تركون وتسجدون وكان يضحك من أفعالهم بهستيريا أما أهله وأقاربه صدموا وأصابهم الذهول سمعت المنطقة كلها فندموا على إرساله وعاتبوا أهله وحمدوا لأنفسهم حظهم في عدم ذهاب أولادهم والبعض منهم دعا إلى (المشافعة) وهو نظام كانوا يلجأون إليه عند حصول الخطأ حيث يجمعون الأغنام ويدعون الله أن يسامحهم على غلطهم وأن يرفع البلاء ويمنع حلول العذاب.

  قبل ما تكبر الجزيرة كان الرجل يترك أخاه أمينا على ماله وأهله ويسافر للعمل في البحرين وقطر وعمان والإمارات والسعودية والمهرة وحضرموت وقد كان حينها السقطري موصوفا في تلك المناطق بالإخلاص والإتقان في العمل والأمانة فأمنهم الناس على أموالهم وبيوتهم.

  وحين كبرت الجزيرة وتسارعت الأحداث ودخل ما وراء الماء رأوا من أولادهم من يتشبه بالنساء ومن يغش ويحتال ويكذب ويسرق ومن يقلد الغرب ويتخلى عن الدين والفطرة وغير ذلك من الأفعال الشنيعة، ولهذا تمنوا لو أنهم بقوا على ما هم عليه سابقا من ويغير من طباعهم أي شيء ورضوا بالقليل من التعليم والمال والصحة وكافة الخدمات حفاظا على عاداتهم النبيلة التي توارثوها وليس هذا الحنين منهم إلى الماضي حربا على الحضارة بل لأن تلك الحضارة تخلت عن القيم والأعراف النبيلة.

  *المقال خاص بالمهرية نت *