آخر الأخبار
شيء من حكايات الكرم السقطري
رافقت الإنسان السقطري منذ وجوده في هذه البقعة الأرضية المحاطة بالمياه من كل اتجاه صفة نبيلة تدلّ على ارتباطه بالعروبة وانتسابه إلى العرب، وأصالته الدينية والقومية؛ وهذه الصفة هي صفة الكرم التي ظلت لباساً يجمله في أي بقعة حلّ، صفة امتاز بها هذا الإنسان وكأنها فطرة خلقت معه ورضعها من بيئته القاسية التي عاش بها، وقد دربته هذه القسوة أن يجود بما عنده لإنقاذ حياة غيره.
فالطفل السقطري منذ الصغر يحفظ الكثير من القصص التي يحكيها الوالدان والأهل والأجداد عن الكرم والبخل، وبواسطتها تزينت الكرم في ذهنه فأحبه وبشعت صورة البخل فكرهه، كما رأى الكرم واقعاً في تعامل والديه مع الآخرين، وزاد من توثيقها تصرف الإخوان والجيران تجاه الضيفان لذا ليس من غريب القول إذا قلنا أن الكرم فطري في تصرف الإنسان السقطري ساعدت البيئة في ترسيخها.
حالياً مع زحف الناس نحو الحضارة، وافتتانهم بها ضعفت عند كثير من العرب صفة الكرم، وما بقي منه تستطيع أن تسميه كرماً مشروطاً يكون لمعرفة أو لمكانة ومنزلة وهيئة وديانة ولون وغير ذلك، وكأن الفوارق الطبقية دخلت في الكرم فأضعفته، ولكن إذا بحث عن الكرم المطلق غير المشروط ستجده في سقطرى، فلا تستغرب إن رأيت رجلا بدويا يكرم أجنبيا أو أجنبية ممن على غير دينه وجنسه ولونه فيقدم صنوف الطعام ويذبح ويطبخ ويتعب غير طامع بأي فائدة، ولا مهتما بأي خسارة في سبيل ما تمليه عليه فطرته من الكرم بل يعدّ من العار عليه أن يجد في طريقه ضيفاً ولا يضيفه فضلاً عن حلول الضيف في داره.
ويمتد الكرم إلى الخصوم والمعارضين ومن يعتدون على الأملاك والأراضي أو يسيئون إلى الشخص بأفعالهم وكلامهم فإذا نزل أياً من هؤلاء بدياره يرى من الواجب عليه إكرامهم ولا يقتصر الإكرام على تقديم الطعام العادي بل يرى صاحب الدار أنه لابد من الذبح لهم، ويمنع الرجل كافة رجاله وأفراد قبيلته من الإساءة إليهم ولو بكلمة، وكثير ما تقام اجتماعات الدعوى في القرى والأرياف ويتم فيها ضيافة الخصوم على أكمل وجه طوال فترة إقامتهم التي قد تمتد إلى يومين أو ثلاث.
في سقطرى كافة حين ينزل الضيف بدار أي فرد يتهلل وجه ويستبشر، ويعتقد بإيمان أن البركة تأتي مع الضيف لذلك يبالغون في إرضائه بغض النظر عن شخصه وعن معرفته ويصل الأمر إلى أن يغبط الجيران الرجل الذي يكثر عنده الأضياف، ويلومون أنفسهم مع العلم أنهم يقومون بالواجب مع صاحب الدار، ويلبون جميع احتياجاته، ويساعدونه في إعداد وجبات الضيافة، وحتى لو لم يكن صاحب الدار موجودا يتصرفون وكأنهم في دارهم، وكأن الضيف ضيفهم وكثير ما يعاتب الرجل زوجته إذا شعر أنها قصرت في شيء من إكرام الضيف، وقد يحصل أن تتغلب المرأة على خلوتها إذا ما حل ضيف وتلبس عباءتها وبراقعها وتأتيه بالشاي والقهوة والتمر أو اللبن، وغير ذلك ثم تستدعي رجالاً من الجيران لمؤانسة الضيف والذبح له وغير ذلك.
يرى السقطري أن الضيف يرفع من قدر الدار التي نزل بها، وأي تقصير في ذلك يعد منقصة وعاراً تلحق بكل من في الدار، وربما السلالة وأهل الدار جميعاً.
ذات يوم أرسل رجل من قرية مجاورة ثلاثة أطفال إلى أبي يبلغونه بموضوع معين فاستقبلهم ورحب بهم وفرش لهم وتعامل معهم كأنه يتعامل مع علية القوم وشيوخهم، وفور أن أكمل الغلمان أكل المقبلات التي قدمت لهم الشاي والخبز والتمر وغير ذلك قاموا في طريقهم إلى العودة فأقنعهم بأنه يذهب بالسيارة إلى مكان قريب من منطقتهم ويأخذهم معه وبعدها ذهب إلى ذكر من الغنم متوسط العمر وذبحه فعاتبته في ذلك كون الوقت حينها فيه شدة، ولم يبق لدينا من المواشي غير عدد محدود، وقلت له يا أبتي هؤلاء أطفال لا يهتم بهم أحد ولا يفقهون بأمور التكريم والضيافة فقال لي يا بني هذه داري وانتقاص أي أحد فيها أو الاستهانة به يعد نقصاً على الدار، والناس لا ينظرون إلى مقاسات الضيف بل يتعاملون معه بواجب الدار، وما زالت هذه المقولة محفورة في ذهني إلى اليوم.
حدث مشابه لذلك حصل لي أيضاً في المناطق الغربية من سقطرى فقد أوصلت أحدهم بسيارتي إلى داره، وفي الصباح الباكر بعد تناول الفطور هيأت نفسي للعودة وفي حين كنت أتفقد السيارة إذ بالرجل يحمل عرسة من الغنم حطها أمامي حاولت منعه فرفض، وشرع يدعو بالبركة والشفاء لأهل بيته وللضيفان، ومن عاداتنا إذا تم الدعاء على الغنم فلابد من ذبحها خاصة إذا اطلقت عليها عبارة (حنكى حالول) أي قد أحللنا ذبحها، ولابد من تنفيد ذلك المهم بعدما فرغ الرجل من دعواته الطويلة طلب مني أن أدعو فدعوت بما تيسر لي من الدعوات ومن تم شرعنا في ذبح العرسة، وهي البالغة حد اللقاح، ولم تحمل وهم يعدون ذبح هذا النوع من الكرم، وفي مناطق أخرى لابد أن تكون (منحليؤه) وهي من يغلب على لون رقبتها وأذنيها البياض، وفي مناطق أخرى لا يقدمون إلا الماعز فمن المعيب ذبح الخراف للضيف.
مع حلول العاشرة صباحا قدم لنا الرجل صحفة من الأرز مع اللحم أكلنا منها حدنا ثم استأذناه في العودة فرخص لنا، وانطلقت ورفيقي نحو السيارة فإذا بالرجل يقول تركت لكما خلف الكرسي شيئا من اللحم فنظرت فإذا بكيس مملوء لحما فعرفت أنه لم يترك لأهله شيئا فحاولت رفض اللحم وتحججت بأني لا أعود إلى البيت لكن حججي لم تجد نفعاً فودعناه وانطلقنا، وفي طريقنا طلب مني رفيقي أن نعرج على خاله فأخذت عليه عهداً أن يمنعه من الذبح لأننا على عجالة ومازال لدينا الكثير من اللحم فالتزم العهد، ونزلنا عند خاله مع حلول صلاة الظهر فرحب بنا وسقانا الماء والشاي ثم قرب لنا ماء الوضوء فعاجلته أننا قد تغدينا فلا حاجة لطبخ أي شيء فأقنعني وقال أنا أجيب لكم غذائي فقط فاطمأننت إلى أسلوبه وهدوئه، وذهبت إلى الوضوء فسمعت صراعا يدور بينه ورفيقي فقد حاول التغلب على خاله لكنه رفض وأصر أنه لابد أن يذبح وسمعته يقول كيف تقول علي الناس دخل رجل غريب بيتي ولم أذبح له المهم تغلب الخال على رفيقي وأنا سلمت الأمر لكنني ذهلت حين رأيت أنه لا يملك سوى سبع خراف جميعهن حوامل قريبات الولادة ذبح إحداهن.
والحقيقة هناك كثير من القصص عن الكرم السقطري في القديم والحديث، وهناك مشاهير من الجنسين الرجال والنساء بهذا الأمر إلى حدّ المبالغة أو كما يسميه البعض مجانين الكرم، وليس من المبالغة إذا قلنا أن من هؤلاء من يوازي حاتم الطائي في كرمه فقد ذكر أن أحد السلاطين في العهد القريب أراد اختبار رجل كريم فكمن هو وقافلته التي تربو على عشرين فرداً من الخدم والمستشارين والجلساء في مكان قريب من دار الرجل حتى حلّت الظهيرة فباغته، ونزل عليه ضيفاً، والمعروف أن جميع المواشي تسرح قبل هذا الوقت، ومن الصعوبة إيجادها.
رحب الرجل بالسلطان ومرافقيه، وأدخلهم داره، ووقع في حيرة ماذا يفعل فليس حوله من المواشي ما يكفي هؤلاء القوم فعمد إلى ناقة بالغة من نوق السلطان فذبحها هو ورجاله خلسة وتناهى إلى السلطان الخبر فقال اكتموا الأمر حتى ننظر كيف يتصرف وبعدما تغدى القوم قام السلطان متوجها إلى رواحله فاستوقفه الرجل وقال اسمع أيها السلطان أنا ذبحت ناقة من نوقكم لذلك أنا أمامك مستعد لأي عقوبة تنفذها علي لكني أطلب منك أن ترسل لي في اليوم الفلاني أحد خدامك لينقي من نوقي أي ناقة بديلاً عن ناقتكم فقال السلطان ناقتي من فخذ أصيل، وأريد عوضاً عنها ثلاث، وعليك أن تأتي إلى مجلس الحكم في اليوم الفلاني لننفذ عليك العقوبة فعاتبه قومه على ذلك، وأكثروا لكنه لم يبال بعاتبهم ولا بأي عقوبة في سبيل كرمه.
وحين جاء إلى مجلس السلطان حكى السلطان قصته أمام الجميع، واستغربوا تصرفه وأكرمه وبالغ في إكرامه ومنحه عدداً من النوق، ولا شك أن هذه القصة تشبه قصة حاتم الطائي مع أضيافه لكنها جرت في تصرف الرجل البدوي سجية دون أن يعلم عن قصة حاتم الطائي شيئا، والقصص كثيرة وكثيرة، وهذا غيض من فيض وما قصدناه الاستدلال لا الحصر.