آخر الأخبار

من حكايات الجد سالم

الإثنين, 21 نوفمبر, 2022

لا يخلو المجتمع السقطري في أي موقع جغرافي ريفي كان أو مدني من التسلية والطرافة.. ولعل ذلك سبيلهم الوحيد في إزالة رتابة الحياة والتغلب على الآمها وكسر العزلة التي يعيشونها.



منذ القدم اشتهرت قريتنا بثلاث خصائص، الأولى العلم، فقد كان أكثرهم قراء يجيدون تلاوة القرآن الكريم مع شيء من الفقه والخطابة، والحكمة والثانية بلاغة الرد وقوته، والثالثة الطرافة.. وقد أشتهر منهم غير واحد في هذا المجال، وكان جدي سالم أحد هؤلاء المشاهير الذين تجاوزت شهرتهم الرقعة الجغرافية التي يقيم إلى عموم الأرخبيل، والأبعد من ذلك أنه كان مصدر تخوف لمن حوله يحذرون مكائده ومقالبه.



وقصصه ومقالبه كثيرة يصعب حصرها لذا نحاول صياغة بعضا منها بشكل مقتضب بغية تخليد هذا التراث السردي الذي ظل أدبا شفاهيا يحكى دون أن يدون إلى اليوم.


وأغلب قصص الجد سالم خطيرة تجمع الكوميديا والمأساة بشكل واقعي ولو أنها صورت لفاقت بعضا من المقالب  التي نالت الشهرة وحصدت المشاهدات الكثيرة؛ ولكن مع ذلك قصصه وليدة لحظة الأحداث تأتي دون تخطيط مسبق أو إعداد محكم؛ بل هي مواقف عفوية ولذلك تتطور أحيانا إلى خطورة قاتلة.. ولكن من لطف القدر أنها لم تنجح في أقل المخاطر ولم ترصد أي حالة وفاة على الرغم من الخطورة.. والعجيب أنه لا يكترث بهذه الخطورة بل يكتفي بضحكة خفيفة ذات مقطعين نغميين وبعدها يغيب عن الأنظار لمدة حتى يهدأ الوسط ويخف الغضب تجاهه.


يذكر أنه في يوم من الأيام أخذ إخوانه الصغار إلى مكان بعيد من القرية وفي ناحية من الجبل قربهم من مغارة فيها نوب شديد اللسع، فأثار على إخوانه النوب؛ وكمن في مكان بعيد وجعل ينظر إلى إخوانه في صراعهم والنوب، ويضحك من حركاتهم كادوا أن يهلكوا لولا أن أحدهم فكر بحيلة فقاد إخوانه إلى الوادي وجروا مسرعين مسافة طويلة وأسراب من النوب تلحق بهم ونزلوا في حوض كبير وهكذا تمكنوا من النجاة وهرب الجد سالم ولم يرجع إلى البيت إلا بعد أيام وجلب معه واسطة ليخفف من حدة غضب أهله عليه.


ومن قصصه أيضا قصته مع الرجل العطشان حيث كان يساعد الناس في بناء بيت لرجل من جماعته في العاصمة حديبوه، وكان الجو حارا ومع اشتداد الحرارة جاء أحد إليه وطلب منه شربة ماء فأخذه إلى مكان محترف وأجلسه في الظل وطلب منه أن ينظره ليجلب له الماء فجلب له كأسا وقال له اشرب سريعا لأن هذا الماء خاص بالمعلم فشرب الرجل الكأس دفعة واحدة ليكتشف فورا أن الرجل سقاه مادة بترولية تدعى القاز، كان يستخدم في تسريج الفوانيس وفورا ساءت حالة الرجل واختفى صوته والتصقت حنجرته وضاق نفسه وكاد أن يهلك فأسعف إلى المشفى ومكث عدة أيام حتى تعافى.. يذكر أن هذا الرجل كان مشهورا أيضا في قومه بنكثه ومقالبه فجعل من يزوره يعيره قومه بهذا المقلب.


وفي يوم من الأيام في قريته الريفية جاءهم ضيف فذبحوا له وأكرموه وكان الرجل من النوع الدلوع الفخور بنفسه الذي يحب الفخر والتأنق فأراد الجد أن يكسر هذ السلوك عنده فتعمد تحديد سكينا وناوله ليقطع بها اللحم وهي عادة سقطرية أثيرة مازالت إلى اليوم حيث يقوم أحد الأشخاص بتقطيع اللحم أثناء الغذاء ويضع القطع فوق الأرز، فقدم سكينه الحاد ذلك إلى الرجل وقال له نحن من عاداتنا أن الضيف هو الذي يقوم بتقطيع اللحم فشعر الرجل بالفخر وتناول السكين وجعل يقطع لهم اللحم وهم يأكلون بعده ويأكل معهم وبعد فترة تجاوز السكين اللحم إلى أصابع يده فقطعها فسال دم كثير وحاول الرجل إخفاء ألمه لكن الدم فضحه، وحقيقة يعد من العيب على من يقطع اللحم أن يخرج الدم منه فيعد هذا نوعا من قلة الخبرة والتدريب.


وفي موقف آخر استضاف ولده إلى القرية أناس غرباء لا يفهمون في العادات والتقاليد السقطرية فذبح لهم الولد وجهز لهم مائدة غذائية من صنوف الأطعمة والمشروبات وكان من عادة القرى البدوية أنهم يذبحون بطريقة خاصة فيفصلون العظام عن اللحم وأول ما يقدم للضيف هذه العظام مع المرق ويكون ذلك عادة قبل صلاة الظهر وبعدها يقدمون الأرز مع اللحم.


جاء الولد بالعظام والمرق وقدمها إلى الضيوف، وطلب من والده الأكل معهم وخدمتهم وذهب ليجهز مائدة الغذاء، وبعد أن أكمل الضيوف أكل ما في العظام من اللحم وتذوقوا شحومها وشربوا المرق، قال لهم الوالد نعتذر منكم يقول ابني إنه مشغول وقد ذهب إلى مكان بعيد فإذا ما تبيتوا عندنا فلكم أن تذهبوا إذا أردتم فقاموا كلهم وقالوا نحن معنا أعمال لذلك نستأذن منكم نريد العودة إلى العاصمة فقام وودعهم فذهبوا وبعد لحظات جاء ولده يحمل معه اللحم والأرز فقال لوالده أين الضيوف فقال معهم شغل واستأذنوا وتحدث الضيوف بينهم عن هذه العدة الغريبة واستغربوا تصرف الرجل يستضيفهم ومن ثم يقدم لهم العظام والمرق فقط.. المهم لحق بهم الولد إلى العاصمة من فوره واعتذر منهم وعرفهم بالعادة.
في دولة الإمارات كانت له كثير من المواقف والقصص، فقد أراد أن يتسلى مع عجوز من أقاربه، فقال لها ما تعرفي دار فلان أريد زيارتهم فتشجعت العجوز وقالت أعرف فجعل يتبعها وكلما قربت من البيت توهها، وفي الأخير شككها بلون باب البيت فأقنعها أنه أحمر فجعلا يبحثان عن باب بيت أحمر، وكلما قرعوا بابا منها يطلع أهلها غرباء، وطافا حوالي ثلث ديار عجمان حتى أنهما لم يهتديا إلى العودة إلى دارهما إلا بصعوبة وهو في الحقيقة يعرف الدار التي يريد زيارتها ويعرف طريق العودة إلى داره.


من حكاياته في الإمارات أيضا أنه كان معه رفيق يشاركه في غرفته في بيت ولده وكان يضايقه بشخيره وتصرفاته لذلك عمل فيه مقالب عدة منها أن الرجل أراد أن يذهب إلى الصالون ليحلق شعره فقال له الجد سالم ولماذا تخسر نفسك أنا عندي محلق جديد وعندي خبره في الحلاقة، فوافق الرجل وذهب الجد سالم إلى البقالة واشترى شفرة جديدة ومحلق وبلل الرجل شعره بالماء فجعل يحلق له وأخذ الشعر والجلد، وعمل له بقع كثيرة في رأسه وخرج دم كثير ولم يستطع الرجل التحمل أكثر فخرج إلى الصالون ورفضوا أن يكملوا حلقته بل طلبوا تقريرا من الشرطة أنه لم يتعرض لحادث، وصار الموضوع معقدا أكثر من مجرد حلاقة ولم ينته إلا بعد وساطات وضمانات.

 
عجوز أخرى في سقطرى من قرية مجاورة لقريته جاءت إلى دارهم تريد الذهاب إلى العاصمة بسيارة ولده القلاب، وكانت أول مرة تركب سيارة فذهب إليها وأخذ بيدها وأجلسها في مقعد السائق وأمرها أن تتمسك بالدركسون مقود السيارة، و قال لها أنا خليتك تركبي في أحسن مكان فلا ترضي إذا جاءوا ينزلونك وظلت المرأة متمسكة بالمقود وجاء كثير من الناس يتفرجون عليها ويضحكون وجاء السائق وحاول اقناعها بصعوبة.
في القديم يحكي الناس عن الجد أنه كان يفعل المقالب في أصدقاء والده الذين يزورونه، فقد كان والده ذات مرة يصلي مع أحد أصدقائه وكانت معه حماره نافرة يثيرها الحركات فتشرد وتصدر أصوات مفزعة المهم أخذ لجامها وربطه بطرف ثوب صديق والده واستثارها حتى نفرت فجرت معها الرجل على الصخور والحصى وأدركه والده بصعوبة وتمزقت ثياب الرجل وخرج الدم من رأسه وظهره وصار بحالة يرثى لها.


وفي العاصمة حديبو حين بنى جدي بيته، كان الجد سالم أحد المشاركين في عملية البناء، وكان يأتي إليهم رجل مسكين ليتغدى عندهم.. كان هذا الرجل يلبس ثيابا متسخة ودائما ما يعتمر كوفية ما عرفت الماء منذ لبسها، المهم حين توضأ الرجل أخذ الجد سالم كوفية الرجل ودسها في جرة الماء التي يشرب منها الناس بعد الغذاء أراد الرجل الذهاب فبحث عن كوفيته فلم يجدها وبحث معه الناس فنظر أحدهم داخل الجرية فرآها فاستقاء كل الناس ما في بطونهم من طعام وكانت جدتي كلما ذكرها أحدهم الموقف ترجع ما أكلت من طعام.


  كثيرة هي قصص الجد سالم ومقالبه، وهي طريفة ولو كان سردها شفهي وبلغتها الأصلية لكانت أكثر طرافة وغرابة وإضحاكا إلى اليوم الناس الذين تحكى لهم هذه القصص يضحكون بهستيريا والترجمة حقيقة تخل بقيمة المادة غالبا ما تكون والحكاية الشفهاية العامية أكثر طرافة من صياغتها بأسلوب كتابي الذي يستدعي الحرص على الصياغة وتنميق العبارة. 


وقد سقنا بعضا من القصص والحكايات للجد سالم للإشارة إلى جانب من الأدب الشعبي السردي عند السقطريين والتي بلا شك تحمل في طياتها كثير من عادات وتقاليد المجتمعات الريفية في الأرخبيل.

  *المقال خاص بالمهرية نت*