آخر الأخبار
الاستعانة بالحكيم سلوك الإنسان القديم في سقطرى
أدرك الأولون أهمية الاستشارة فاستعانوا بما أشكل عليهم من الأحداث التي تواجههم في مختلف شؤون حياتهم بالحكيم، وقدروا الأذكياء لذكائهم والحكماء لحكمتهم، والدهاة في مختلف مجالاتهم، فذهبوا إلى كل حكيم في مجال تخصصه.
ورغم أن هذا الحكيم قد يكون رجلا عادي مثل غيره من الناس وقد يكون غير متعلم لم تتوفر له البيئة حتى يتلق التعليم اللازم لكن ذلك لم يكن عائقا يقف حول تقديمه الخدمة للمجتمع ولم يلتفت الناس إلى هذه الجوانب عنده فلا يسألون عن علمه ومدرسته.. المهم أنهم يسترشدون برأيه ويأخذونه على محمل الجد وله أهمية كبيرة في حياتهم.
هناك عدة تسميات للحكيم في سقطرى منها: (دي حاكوه) وهو الرجل القديم الذي عاصر الأحداث، وقد يكون لم يعاصر الأحداث بل حفظ أحداثا مشابهه لكل حدث، ويستطيع توظيفها فيسقطها على كل حدث يسأل عنه من هذا النوع فتتقصده الناس من كل مكان للاسترشاد برأيه.
ومنها:(نبهي) وهذه اللفظة مأخوذة من النباهة والتنبؤ، أي أنه يتنبأ بحصول أشياء معينة مثل وقوع الأمطار أو الرياح والقحط وكثرة الثمار أو قلتها؛ أو إنتاج المواشي للذكور دون الإناث أو العكس وغير ذلك.. وهذا ليس بسحر أو من أعمال السحر وإنما له حسابات معينة وتوفيق قد يستجيب له القدر وفق توقعه وقد يحصل عكس ما يقول.
ويدخل ضمن هذا النوع قارئ الأثر، ولم يشتهر من هذا النوع غير من يعرف أثر الأقدام..وهناك مسمى آخر قريب من هذا يطلق على الأذكياء خاصة وهو (دي دوعوه) أي ذو نباهه، وغالبا ما يطلق على من هم في مراحل العمر الأولى ما قبل البلوغ.
ومنها: (دي مشقدهم) وهو شخص يلقي حكما وأمثالا واقعية من تجارب الناس فيعد قوله حكمة من الحكم التي يستشهد بها الناس لما يصادفهم من مشاهد وأحداث مماثلة وهذا النوع من الحكماء قد يعرفون وقد يكونوا غير معروفين.
وفي التراث السقطري الكثير من القصص التي تبين تعلق الناس بالحكيم ويمكن للاستشهاد لا الحصر نسرد باقتضاب قصتين من التراث السقطري الدال على ذلك:
الأولى: قصة أخوين أبوهما في عقله خفة ولكل منهما زوجة وهم يسكنون مع بعض في بيت واحد فيهتم الرجلان بالمواشي والمرأتان بشؤون البيت وما يحتاجه أبو الزوجين من الرعاية وكان أحد الرجلين يجلب اللبن لولده ويتركه في مكان معروف ويأتي بعدها الوالد ويشرب منه، فغارت المرأتان من هذا الاهتمام بالوالد فحاكتا خطة لكي تتمكنا فقامتا باستبدال اللبن الطازج باللبن الحامض وتأتيان إليه باللبن الحامض وترقصان له وتنشدان حتى يطرب وتسقيانه من الحامض وترددان: (صابر هك ليندق ريهو دي معالها) الصابر هو الحامض وليندق أي لتعطىن وريهو دي معلها أي ماء الربوة الحامضة التي تطفو فوق اللبن الحامض فيشرب حتى يرتوي وتقومان بشرب اللبن الطازج فكان هذا الرجل دائما عندما يقابل ولديه يقول هذه الأبيات:
ديه حوفي من قير عسرهى من معزز
دي شماقس ديه مس دشالتتن
ومعناها: في البيت الأول: تمنى الراحة بعد التعب والظل بعد الشمس، وفي البيت الثاني: تمنى عدم طلوعه عقبة دي شماقس حيث كانوا يسقون الأغنام في الوادي فيتطلب نزول العقبة وطلوعها.
والمعنى العام هو أن الرجل تمنى أن يكونا ولديه بجانبه، حتى يرعيانه ويهتما بشؤونه، واستغرب الرجلان إنشاد والديهما الدائم لهذه الأبيات، فأستشار الناس فقال بعضهم هناك شيء خفي يحدث معه فراقباه فبادر أحدهما لكشف الأمر فكمن للزوجتين فرأى ما تصنعان بوالدهما وفي اليوم التالي صب الزيت المغلي في آذانهما وقتلهما.
وبعد مدة زاد وزن والدهما فخافا عليه فذهبا إلى الحكيم فقال تحدثا عن مشاكل الغنم وهو يسمع دائما فاختلق الرجلان لوالديهما قصصاً جعلته يفكر فيها ليله ونهاره وبذلك خف وزنه.
قصة أخرى وهي قصة رجل يمتلك أموالا وليس له سوى ولدين فاتفق الناس على تزويجه من شابة لكي يحظى بولد آخر أو بنت، فخطبوا له شابة فتزوجها وبعد خلوته بها في ليلته الأولى لم يستطع النهوض من رقدته فقد فارق الحياة وصار في عداد الموتى، وشاء الله أن تحبل الفتاة في تلك الليلة، وحين شب الولد طالب إخوته بنصيبه من الميراث فانكروا نسبه واختلفوا في الأمر فاقترح الناس عليهم ضرورة الذهاب إلى الحكيم وحين قابلوه فأجرى لهم اختباراً فقال للولد اذهب إلى تلك البنت التي ترعى نعاجها في الصحراء واسرق منها شاة واهرب، لكن دعها تتمكن من رؤية وجهك وتفاصيل جسمك بشكل سريع وهذه البنت هي بنت الحكيم وفعلا ذهب الولد إليها واستلب منها شاة ولم تتمكن من اللحاق به..
وعندما عادت إلى بيتها شكت لوالدها أن غلاما سرق منها شاة فقال لها والدها الحكيم صفيه لنا فوصفته فقالت وجهه وجه البنت وقفاه قفا الشايب، ووفقا لهذا الوصف قال الحكيم للولدين هذا أخوكما دعوه يأخذ نصيبه من الميراث.
وإلى اليوم ما زال الاهتمام بالحكيم وطلب مشورته ورأيه جارياً في سقطرى وهناك مجموعة من الناس يتمتعون بذكاء فطري حاد ولم يدخلوا مدرسة ولم يتعلموا على يد أحد، ومنهم من يصلح بين الناس ومن يطببهم ومن يقوم بتخطيطات هندسية للطرق ويكتشف الأماكن الاستراتيجية وأماكن تواجد الماء وقلما يخطئون في توقعاهم.
*المقال خاص بالمهرية نت